للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال بعض الحكماء: لا يردّ بأس العدوّ القاهر مثل التذلّل والخضوع كما أن النبات الرّطب يسلم من الريح العاصفة بلينه، لأنه يميل معها كيف مالت. وما لهج [١] الملوك بشيء أشدّ من لهجهم بالصّيد والقنص، وهو الشيء الّذي طالما اتّفقت فيه النكت العجيبة، والطّرف الغريبة، وكان المعتصم ألهج الناس به: بنى في أرض دجيل [٢] حائطا طوله فراسخ كثيرة، وكان إذا ضرب حلقة يضايقونها ولا يزالون يحدّون الصيد حتى يدخلوه وراء ذلك الحائط، فيصير بين الحائط وبين دجلة، فلا يكون للصيد مجال فإذا انحصر في ذلك الموضع دخل هو وولده وأقاربه وخواصّ حاشيته، وتأنّقوا في القتل وتفرجوا فقتلوا ما قتلوا وأطلقوا الباقي. وقيل:

إنّ المعتصم دوّغ [٣] عدّة من حمر الوحوش وأطلقها، لأنّه بلغه أنّ أعمارها طويلة وها هنا موضع حكاية طريفة عجيبة: حدّثني صفيّ الدين عبد المؤمن بن فاخر الأرمويّ، قال: حدثني مجاهد الدين أيبك الدّويدار [٤] الصغير. قال: خرجنا مرة في خدمة الخليفة المستعصم إلى الصيد، وضربنا حلقة حلقة قريبا من الجلهمة- وهي قرية بين بغداد والحلّة- ثم تضايقت الحلقة حتى صار الفارس منّا يصيد الحيوان بيده، فخرج في جملة حمر الوحش حمار كبير الجثة، عليه وسم، فقرأناه وإذا هو وسم المعتصم. قال: فلما رآه المستعصم وسمه بوسمه وأطلقه. وكان بين المعتصم والمستعصم حدود خمسمائة [٥] سنة! ومن طريف ما سمعت من امر الصّيد، ما حدّثني به رجل من أهل الأدب ببغداد قال: حدثني محمّد بن صالح البازياريّ [٦] قال: تصيدنا بين يدي السلطان (أباقا) [٧] يوما، فطار- ونحن بين يديه- ثلاثة كراكي [٨] على سمت مستقيم


[١] لهج بالشيء: تحدّث عنه.
[٢] دجيل: ناحية في الأهواز فيها نهر بهذا الاسم.
[٣] دوّغ: أنهك بالمطاردة.
[٤] الدويدار: كلمة فارسية بمعنى كاتب الملك أو حامل الدّواة.
[٥] هنا يشير إلى مدى تعمير حمار الوحش.
[٦] البازياريّ: محترف تدريب الباز أو الصقر على الصيد.
[٧] السلطان أباقا: ابن هولاكو المغوليّ، حالف الصليبيين وانهزم جيشه في الأناضول أمام بيبرس، وتغلب عليه قلاوون قرب حمص. مات/ ٦٨٠/ هـ.
[٨] الكراكيّ: جمع كركي وهو طائر بريّ طويل الساقين والمنقار.

<<  <   >  >>