للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

والعلم يزيّن الملوك أكثر ممّا يزين السّوقة، وإذا كان الملك عالما صار العالم ملكا وأصلح ما نظر فيه الملوك ما اشتمل على الآداب السلطانيّة، والسّير التاريخية المطويّة على ظرائف الأخبار، وعجائب الآثار، على أنّ الوزراء كانوا قديما يكرهون أنّ الملوك يقفون على شيء من السّير والتواريخ، خوفا أن يتفطّن الملوك إلى أشياء لا يحبّ الوزراء أن يتفطّن لها الملوك.

طلب المكتفي [١] من وزيره كتبا يلهو بها؟ ويقطع بمطالعتها زمانه، فتقدم الوزير إلى النوّاب بتحصيل ذلك، وعرضه عليه قبل حمله إلى الخليفة، فحصلوا شيئا من كتب التاريخ، وفيها شيء مما جرى في الأيام السالفة من وقائع الملوك، وأخبار الوزراء ومعرفة التحيّل في استخراج الأموال، فلمّا رآه الوزير، قال لنوّابه والله إنكم أشدّ الناس عداوة لي، أنا قلت لكم: حصّلوا له كتبا يلهو بها، ويشتغل بها عنّي وعن غيري فقد حصّلتم له ما يعرّفه مصارع الوزراء، ويوجده الطريق إلى استخراج المال، ويعرّفه خراب البلاد من عمارتها! ردّوها، وحصّلوا له كتبا فيها حكايات تلهيه، وأشعار تطربه.

وكانوا يكرهون أيضا أن يكون في الخلفاء والملوك فطانة ومعرفة بالأمور ولما مات المكتفي، عزم وزيره على مبايعة عبد الله بن المعتزّ [٢] ، وكان عبد الله فاضلا لبيبا محصلا، فخلا به بعض عقلاء الكتاب وقال له: أيّهذا الوزير: هذا الرأي الّذي قد رأيته في مبايعة ابن المعتز ليس بصواب، قال الوزير: كيف ذلك؟

قال: أيّ حاجة لك أن تجلس على سرير الخلافة من يعرف الذّراع والميزان والأسعار، ويفهم الأمور، ويعرف القبيح من الحسن، ويعرف دارك وبستانك وضيعتك؟ الرأي أن تجلس صبيّا صغيرا فيكون اسم الخلافة له، ومعناها لك، فتربّيه إلى أن يكبر، فإذا كبر عرف لك حقّ التربية، وتكون أنت قد قضيت أوطارك


[١] هو علي أبو محمّد بن المعتضد، الخليفة السابع عشر من خلفاء بني العبّاس، بويع بالخلافة سنة/ ٢٨٩/ هـ.
[٢] عبد الله بن المعتزّ: أمير عباسيّ شاعر وأديب صاحب كتاب «البديع» ولي الخلافة يوما وليلة ومات خنقا سنة/ ٢٩٦/ هـ.

<<  <   >  >>