للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

مجازيكم على ما تكسبون". وهذا يُفهم منه أن أعمال العباد منسوبة لهم، ومحفوظة في اللوح المحفوظ، وسيُحاسبون عليها. كما يُفهم أيضاً من قوله تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) (١). وقد ذكر الطبري فيها وجهان: أي الله خلقكم وعملكم، أو أن الله خلقكم والذي تعملونه ومن الأصنام (٢). وجاء في الحديث الشريف: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والارض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء) (٣). ومن هذين البابين يرد القرآن الكريم على مزاعم الفرق الضالة في باب القدر وهما القدرية والجبرية. فقال جهم وأتباعه وهم الجبرية وكذلك الأشعري وأتباعه أن الفعل مقدور للرب لا للعبد وان الله خالق أعمال العباد. وكلامهم هذا يقتضي بان هذا الكون خلق عبثا وانا الامانة التي حملها الإنسان معطلة، فلو ان العباد لا يد لهم في إختيار أعمالهم لأوجب ذلك بطلان الجزاء والحساب وان الله تعالى سيلقي الكفار في النار لأعمال لا يد لهم بها، وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وهذا قول باطل بدليل قوله تعالى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُم مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ) (٤). وفي الجانب الآخر نجد القدرية نُفُاة القدر من المعتزلة ينفون خلق الله لأفعال العباد ويقولون إن الله لا يقدر على عين مقدور الرب وان العباد خالقون لأفعالهم وأن الله لا يد له فيها. وهذا يعني الشرك بالله وأن الكافر قد أصبح كافر رغما عن الله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. ولذا سماهم الرسول صلى الله بمجوس هذه الأمة، مما يدل على عظم القول بهذا وشدته. فقد روى أبو داود عن عبد الله بن عمر، عن النبي قال: (القدريَّة مجوس هذه الأمة، إن مرِضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم) (٥). ولنعلم يقيناً أن الهداية بيد الله تعالى، وأن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء. وقال تعالى: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإسلام وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) (٦). ولذا وجهنا الرسول لطلب الهداية من الله وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. وكان يقول في دعائه: (اللَّهمَّ


(١) سورة الصافات، آية ٩٦.
(٢) انظر تفسير الطبري، أبو جعفر، محمد بن جرير الطبري (٢٢٤ - ٣١٠ هـ)، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، دار التربية والتراث - مكة المكرمة، جزء ٢١، صفحة ٧٠.
(٣) أخرجه مسلم في صحيحه باختلاف يسير، كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى ، جزء ٨، صفحة ٥١، حديث رقم ٢٦٥٣. أخرجه الألباني في صحيح الجامع، حديث رقم ٤٤٧٤، عن عبد الله بن عمرو وصححه. الجامع الصغير وزيادته، ٨٦٠١/ ٨٦٠٣.
(٤) سورة آل عمران، آية ١٩٥.
(٥) أخرجه الألباني في صحيح أبي داود (٣٩٢٥)، وقال حديث حسن صحيح.
(٦) سورة الأنعام، آية ١٢٥.

<<  <   >  >>