عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مُدَّعِي الْإِنْكَارِ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا عَقْدَ، وَلَوْ أُقِيمَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بَعْدَ الْإِنْكَارِ جَازَ الصُّلْحُ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ لِأَنَّ لُزُومَ الْحَقِّ بِالْبَيِّنَةِ كَلُزُومِهِ بِالْإِقْرَارِ. وَلَوْ أَقَرَّ ثُمَّ أَنْكَرَ جَازَ الصُّلْحُ، وَلَوْ أَنْكَرَ فَصُولِحَ ثُمَّ أَقَرَّ كَانَ الصُّلْحُ بَاطِلًا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ.
(وَ) يَصِحُّ الصُّلْحُ أَيْضًا فِي كُلِّ (مَا يُفْضِي) أَيْ يَئُولُ (إلَيْهَا) أَيْ الْأَمْوَالِ كَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ، كَمَنْ ثَبَتَ لَهُ عَلَى شَخْصٍ قِصَاصٌ فَصَالَحَهُ عَلَيْهِ عَلَى مَالٍ بِلَفْظِ الصُّلْحِ كَصَالَحْتُك مِنْ كَذَا عَلَى مَا تَسْتَحِقُّهُ عَلَيَّ مِنْ قِصَاصٍ فَإِنَّهُ يَصِحُّ، أَوْ بِلَفْظِ الْبَيْعِ فَلَا.
(وَهُوَ) أَيْ الصُّلْحُ ضَرْبَانِ: صُلْحٌ عَنْ دَيْنٍ وَصُلْحٌ عَنْ عَيْنٍ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا (نَوْعَانِ) فَالْأَوَّلُ مِنْ نَوْعَيْ الدَّيْنِ وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ (إبْرَاءٌ) وَسَيَأْتِي فِي كَلَامِهِ. وَالثَّانِي مِنْ نَوْعَيْ الدَّيْنِ وَتَرَكَهُ الْمُصَنِّفُ اخْتِصَارًا مُعَاوَضَةٌ وَهُوَ الْجَارِي عَلَى غَيْرِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ. فَإِنْ صَالَحَ عَنْ بَعْضِ أَمْوَالِ الرِّبَا عَلَى مَا يُوَافِقُهُ فِي الْعِلَّةِ اشْتَرَطَ قَبْضَ الْعِوَضِ فِي الْمَجْلِسِ، وَلَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُهُ فِي نَفْسِ الصُّلْحِ عَلَى الْأَصَحِّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْعِوَضَانِ رِبَوِيَّيْنِ، فَإِنْ كَانَ الْعِوَضُ عَيْنًا صَحَّ الصُّلْحُ وَإِنْ لَمْ
ــ
[حاشية البجيرمي]
اخْتِصَاصِ أَحَدِهِمَا بِهَا وَبَذْلِ شَيْءٍ مِنْهُ لِلْآخَرِ م د، قَوْلُهُ: (أَوْ دَارًا فِي يَدِهِمَا) يُقَالُ: أَيْ حَاجَةً لِلصُّلْحِ بَيْنَهُمَا مَعَ أَنَّهَا لَهُمَا مُنَاصَفَةً بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ؟ قَوْلُهُ: (وَأَقَامَ كُلٌّ بَيِّنَةً) رَاجِعٌ لِلِاثْنَيْنِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ بِقَيْدٍ بَلْ مِثْلُهُ إذَا لَمْ يُقِمْ أَحَدٌ بَيِّنَةً لِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ كَالْعَدَمِ لِتَعَارُضِهِمَا. قَوْلُهُ: (أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مُدَّعِي الْإِنْكَارِ) وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ خَرَجَتْ عَنْ قَاعِدَةِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مُدَّعِي الصِّحَّةِ فِيمَا لَوْ اخْتَلَفَا وَأَحَدُهُمَا يَدَّعِي الصِّحَّةَ وَالْآخَرُ يَدَّعِي الْفَسَادَ.
قَوْلُهُ: (وَلَوْ أُقِيمَتْ) فِي مَعْنَى تَعْمِيمِ الْإِقْرَارِ فِي قَوْلِ الْمَتْنِ " مَعَ الْإِقْرَارِ " فَيَكُونُ الْمُرَادُ الْإِقْرَارَ وَلَوْ حُكْمًا، وَأَشَارَ بِهَذَا إلَى أَنَّ الْبَيِّنَةَ كَالْإِقْرَارِ وَمِثْلُهَا الشَّاهِدُ مَعَ الْيَمِينِ.
قَوْلُهُ: (كَانَ الصُّلْحُ بَاطِلًا) هُوَ الْمُعْتَمَدُ لِأَنَّ مَا وَقَعَ فَاسِدًا لَا يَنْقَلِبُ صَحِيحًا ق ل
قَوْلُهُ: (فَصَالَحَهُ عَلَيْهِ) صَوَابُهُ " عَنْهُ " ق ل؛ لِأَنَّ عَنْ تَدْخُلُ عَلَى الْمَتْرُوكِ وَالْقِصَاصُ مَتْرُوكٌ هُنَا، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْقَاعِدَةَ أَغْلَبِيَّةٌ. وَيُجَابُ بِأَنَّ الْقِصَاصَ كَالْمَأْخُوذِ لِمَنْ هُوَ عَلَيْهِ وَإِذَا أَخَذَهُ سَقَطَ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: (كَصَالَحْتُك مِنْ كَذَا) هَذَا مِنْ غَيْرِ الْغَالِبِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: " مِنْ " دَاخِلَةٌ عَلَى الْمَتْرُوكِ وَعَلَى دَاخِلَةٌ عَلَى الْمَأْخُوذِ، فَهَذَا مِنْ الْغَالِبِ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ صَادِرٌ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَمَا هُوَ صَرِيحُ قَوْلِهِ: عَلَى مَا تَسْتَحِقُّهُ عَلَيَّ وَهُوَ يَأْخُذُ الْقِصَاصَ، أَيْ وَإِذَا أَخَذَهُ سَقَطَ عَنْهُ وَيُتْرَكُ غَيْرُهُ، فَمَنْ قَالَ إنَّ هَذَا مِنْ غَيْرِ الْغَالِبِ كَأَنَّهُ تَوَهَّمَ أَنَّ هَذَا صَادِرٌ مِنْ الْمُدَّعِي.
قَوْلُهُ: (فَإِنَّهُ يَصِحُّ) وَيَسْقُطُ بِهِ الْقِصَاصُ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ بِذَلِكَ، وَمَتَى مَلَكَ مَنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ سَقَطَ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: (أَوْ بِلَفْظِ الْبَيْعِ فَلَا) أَيْ أَوْ صَالَحَهُ عَنْ الْقِصَاصِ عَلَى مَالٍ بِلَفْظِ الْبَيْعِ كَبِعْتُكَ الْقِصَاصَ الَّذِي أَسْتَحِقُّهُ عَلَيْك بِكَذَا فَلَا يَصِحُّ، أَيْ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ نَقْلُهُ بِالْبَيْعِ.
قَوْلُهُ: (نَوْعَانِ) وَكُلٌّ مِنْهُمَا نَوْعَانِ، فَذَكَرَ فِي الدَّيْنِ الْإِبْرَاءَ وَتَرَكَ الْمُعَاوَضَةَ لِكَوْنِهِ ذَكَرَهَا فِي الْعَيْنِ، وَذَكَرَ فِي الْعَيْنِ الْمُعَاوَضَةَ وَتَرَكَ صُلْحَ الْحَطِيطَةِ لِكَوْنِهِ ذَكَرَ نَظِيرَهُ فِي صُلْحِ الدَّيْنِ، فَيَكُونُ فِي كَلَامِ الْمَتْنِ شَبَهُ احْتِبَاكٍ.
قَوْلُهُ: (وَتَرَكَهُ الْمُصَنِّفُ) فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ قَوْلَهُ الْآتِيَ " وَالْمُعَاوَضَةُ إلَخْ " شَامِلٌ لِلْعَيْنِ وَالدَّيْنِ، شَيْخُنَا الْعَشْمَاوِيُّ.
قَوْلُهُ: (عَلَى غَيْرِ الْعَيْنِ) فِي هَذَا التَّعْبِيرِ نَظَرٌ، فَإِنْ فُرِضَ الْكَلَامُ فِي الصُّلْحِ عَنْ الدَّيْنِ فَكَانَ الْمُنَاسِبُ أَنْ يُقَالَ: عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ الدَّيْنِ، تَأَمَّلْ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَيْنِ فِي كَلَامِهِ الْمُعَيَّنِ، فَهُوَ وَاقِعٌ فِي كَلَامِهِ وَصْفٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: عَلَى غَيْرِ الدَّيْنِ الْمُعَيَّنِ وَوَصْفُهُ بِالْمُدَّعَاةِ نَظَرًا لِلَفْظِ الْعَيْنِ لَا لِمَعْنَاهَا. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا أَوْلَى مِنْ الِاعْتِرَاضِ، فَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ الْأَوْلَى حَذْفُهُ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الدَّيْنِ لَا الْعَيْنِ، وَكَانَ يَقُولُ عَلَى غَيْرِ الدَّيْنِ الْمُدَّعَى بِهِ.
قَوْلُهُ: (عَلَى مَا يُوَافِقُهُ) كَأَنْ صَالَحَ عَنْ ذَهَبٍ بِفِضَّةٍ أَوْ عَنْ بُرٍّ بِشَعِيرٍ اهـ أج. قَوْلُهُ: (اُشْتُرِطَ قَبْضُ إلَخْ) أَيْ حَذَرًا مِنْ التَّفَرُّقِ الْمُؤَدِّي لِلرِّبَا، فَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الصُّلْحُ وَلَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُهُ فِي الْعَقْدِ اهـ شَرْحُ م ر.
قَوْلُهُ: (فَإِنْ كَانَ الْعِوَضُ عَيْنًا) أَيْ مُعَيَّنًا فِي الْعَقْدِ كَأَنْ صَالَحَهُ عَنْ الْأَلْفِ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ بِهَذَا الْعَبْدِ، كَمَا لَوْ بَاعَ ثَوْبًا بِدَرَاهِمَ فِي الذِّمَّةِ لَا يُشْتَرَطُ قَبْضُ الثَّوْبِ فِي الْمَجْلِسِ.