للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِأَنَّ لِلْمَسْجِدِ مِلْكًا وَعَلَيْهِ وَقْفًا قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا هُوَ الْأَفْقَهُ الْأَرْجَحُ.

ثُمَّ شَرَعَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي وَهُوَ الْوَصِيَّةُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ بِقَوْلِهِ: (وَ) تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْقُرُبَاتِ، وَتُصْرَفُ إلَى الْغُزَاةِ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ لِثُبُوتِ هَذَا الِاسْمِ لَهُمْ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ، وَيُشْتَرَطُ فِي الْوَصِيَّةِ لِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ أَنْ لَا تَكُونَ جِهَةَ مَعْصِيَةٍ كَعِمَارَةِ كَنِيسَةٍ لِلتَّعَبُّدِ فِيهَا وَكِتَابَةِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَقِرَاءَتِهِمَا، وَكِتَابَةِ كُتُبِ الْفَلْسَفَةِ وَسَائِرِ الْعُلُومِ الْمُحَرَّمَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ الْوَصِيَّةُ لِدَهْنِ سِرَاجِ الْكَنِيسَةِ تَعْظِيمًا لَهَا. أَمَّا إذَا قَصَدَ انْتِفَاعَ الْمُقِيمِينَ وَالْمُجَاوِرِينَ بِضَوْئِهَا فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ وَإِنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ الْأَذْرَعِيُّ، وَسَوَاءٌ أَوْصَى بِمَا ذُكِرَ مُسْلِمٌ أَوْ كَافِرٌ، وَإِذَا انْتَفَتْ الْمَعْصِيَةُ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ قُرْبَةً كَالْفُقَرَاءِ وَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ أَوْ مُبَاحَةً لَا يَظْهَرُ فِيهَا قُرْبَةٌ كَالْوَصِيَّةِ لِلْأَغْنِيَاءِ وَفَكِّ أَسَارَى الْكُفَّارِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْ الْوَصِيَّةِ تَدَارُكُ مَا فَاتَ فِي حَالِ الْحَيَاةِ مِنْ الْإِحْسَانِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْصِيَةً.

تَنْبِيهٌ سَكَتَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ الصِّيغَةِ وَهُوَ الرُّكْنُ الرَّابِعُ، وَشُرِطَ فِيهَا لَفْظٌ يُشْعِرُ بِالْوَصِيَّةِ وَفِي مَعْنَاهُ

ــ

[حاشية البجيرمي]

أَرْضٍ وَبَنَاهَا مَسْجِدًا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْوَقْفِ لَهَا وَلِمَا فِيهَا مِنْ الْأَبْنِيَةِ مِنْ الْقَاضِي أَوْ نَائِبِهِ، وَلَوْ كَانَ الْمَسْجِدُ غَيْرَ مُحْتَاجٍ لِمَا أَوْصَى لَهُ بِهِ حَالًّا فَيَنْبَغِي حِفْظُ مَا أَوْصَى لَهُ بِهِ حَيْثُ تُوُقِّعَ زَمَانٌ يُمْكِنُ فِيهِ التَّصَرُّفُ، فَإِنْ لَمْ يُتَوَقَّعْ كَأَنْ كَانَ مُحْكَمَ الْبِنَاءِ بِحَيْثُ لَا يُتَوَقَّعُ لَهُ زَمَانٌ يُصْرَفُ فِيهِ مَا أَوْصَى بِهِ فَالظَّاهِرُ بُطْلَانُ الْوَصِيَّةِ وَصَرْفُ مَا عُيِّنَ لَهَا لِلْوَرَثَةِ.

قَوْلُهُ: (وَبَحَثَ الرَّافِعِيُّ صِحَّتَهَا) وَإِنْ قَصَدَ تَمْلِيكَ الْمَسْجِدِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَعُلِمَ مِنْ تَعْلِيلِهِ بِأَنَّ لِلْمَسْجِدِ مِلْكًا إلَخْ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدَّابَّةِ وَخَرَجَ بِنَحْوِ الْمَسْجِدِ الْوَصِيَّةُ لِدَارٍ لِعِمَارَتِهَا فَبَاطِلَةٌ ق ل.

قَوْلُهُ: (بِأَنَّ لِلْمَسْجِدِ مِلْكًا) الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ أَيْ بِأَنَّ الصِّيغَةَ الَّتِي فِيهَا لِلْمَسْجِدِ بِأَنْ قَالَ جَعَلْته لِلْمَسْجِدِ تَكُونُ مِلْكًا لَهُ، وَالصِّيغَةُ الَّتِي فِيهَا عَلَيْهِ بِأَنْ قَالَ جَعَلْته عَلَيْهِ تَكُونُ وَقْفًا عَلَيْهِ، فَيَكُونُ مِلْكًا خَبَرَ يَكُونُ الْمَحْذُوفَةِ أَيْ بِأَنَّ لِلْمَسْجِدِ أَيْ هَذَا اللَّفْظُ يَكُونُ مِلْكًا وَمِثْلُهُ وَقْفًا شَيْخُنَا، وَنُقِلَ أَيْضًا عَنْ الْبَابِلِيِّ؛ فَالتَّعْبِيرُ بِاللَّامِ يُفِيدُ الْمِلْكَ وَبِعَلَى يُفِيدُ الْوَقْفَ اهـ.

قَوْلُهُ: (وَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) كَأَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ لِسَبِيلِ اللَّهِ وَتُصْرَفُ لِفُقَرَاءِ الزَّكَاةِ، وَلَوْ قَالَ أَوْصَيْتُ بِكَذَا لِلَّهِ صَحَّ وَصُرِفَ لِوُجُوهِ الْبِرِّ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ لِلَّهِ صَحَّ وَصُرِفَ لِلْمَسَاكِينِ. اهـ. سم. اهـ. م د. قَوْلُهُ: (إلَى الْغُزَاةِ) أَيْ الْمُتَطَوِّعِينَ بِالْجِهَادِ قِيَاسًا عَلَى الزَّكَاةِ فَإِنَّهُ لَا يُعْطِي مِنْهَا إلَّا الْمُتَطَوِّعَ.

قَوْلُهُ: (مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ) أَيْ مِنْ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ اهـ.

قَوْلُهُ: (أَنْ لَا تَكُونَ جِهَةَ مَعْصِيَةٍ) أَيْ وَلَا مَكْرُوهَةً فَخَرَجَ الْوَصِيَّةُ بِبِنَاءِ قَبْرٍ لَهُ فِي غَيْرِ الْأَرْضِ الْمُسَبَّلَةِ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ فَلَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِهِ. قَوْلُهُ (كَعِمَارَةِ كَنِيسَةٍ) وَلَوْ كَانَتْ الْعِمَارَةُ تَرْمِيمًا. وَهَذَا فِي الْكَنَائِسِ الَّتِي حَدَثَتْ بَعْدَ بَعْثَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَمَّا مَا وُجِدَ مِنْهَا قَبْلَ شَرِيعَةِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَحُكْمُهَا حُكْمُ مَسَاجِدِنَا وَلَا يُمَكَّنُ النَّصَارَى مِنْ دُخُولِهَا إلَّا لِحَاجَةٍ بِإِذْنِ مُسْلِمٍ كَمَسَاجِدِنَا، كَذَا نُقِلَ عَنْ إفْتَاءِ السُّبْكِيّ؛ وَحِينَئِذٍ فَيَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَتْ لِلتَّعَبُّدِ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ يَتَعَبَّدُونَ فِيهَا الْآنَ هُمْ الْمُسْلِمُونَ دُونَ غَيْرِهِمْ وَإِنْ سُمِّيَتْ كَنِيسَةً. اهـ. ع ش عَلَى م ر.

قَوْلُهُ: (لِلتَّعَبُّدِ) أَيْ مَوْضُوعَةٌ وَمَجْعُولَةٌ لِلتَّعَبُّدِ فِيهَا، بِخِلَافِ كَنِيسَةٍ تَنْزِلُهَا الْمَارَّةُ وَلَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَيْ مَجْعُولَةٌ لِذَلِكَ أَوْ صَارَتْ مَعْرُوفَةً بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْأَصْلِ مَجْعُولَةً لِلتَّعَبُّدِ، وَمِنْهُ الْكَنَائِسُ الَّتِي فِي جِهَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ الَّتِي تَنْزِلُهَا الْمَارَّةُ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِبِنَائِهَا التَّعَبُّدُ وَنُزُولُ الْمَارَّةِ طَارِئٌ كَمَا فِي ع ش عَلَى م ر.

قَوْلُهُ: (وَكِتَابَةِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ) أَيْ الْمُبَدَّلَيْنِ.

قَوْلُهُ: (تَعْظِيمًا لَهَا) أَيْ كَنِيسَةِ التَّعَبُّدِ.

قَوْلُهُ: (فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ) أَيْ حَيْثُ لَمْ يَكُونُوا مُقِيمِينَ لِلتَّعَبُّدِ فِيهَا م ر.

قَوْلُهُ: (أَوْ كَافِرٌ) وَإِنْ اعْتَقَدَهَا حَرَامًا اعْتِبَارًا بِاعْتِقَادِنَا سم.

قَوْلُهُ: (لِأَنَّ الْقَصْدَ) عِلَّةٌ لِقَوْلِهِ: " أَنْ لَا تَكُونَ جِهَةَ مَعْصِيَةٍ ".

قَوْلُهُ: (الصِّيغَةِ) الْمُرَادُ بِالصِّيغَةِ هُنَا الْإِيجَابُ، وَأَمَّا الْقَبُولُ فَسَيَأْتِي، وَلَا بُدَّ مِنْهُ لَفْظًا كَمَا أَفْتَى بِهِ الرَّمْلِيُّ وَإِنْ قَالَ حَجّ يُشْبِهُ الِاكْتِفَاءَ بِعَدَمِ الرَّدِّ وَلَوْ تَرَاخَى الْقَبُولُ وَإِنْ لَمْ يُوَافِقْ الْإِيجَابَ بِخِلَافِ الْهِبَةِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ فَإِنَّهَا كَالْبَيْعِ وَإِنَّمَا لَمْ يُشْتَرَطْ الْفَوْرُ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا تَسَامَحُوا فِي عَدَمِ

<<  <  ج: ص:  >  >>