وُقُوعُ الزِّنَا بَلْ تَوَقُّعُهُ لَا عَلَى نُدُورٍ، فَمَنْ ضَعُفَتْ شَهْوَتُهُ وَلَهُ تَقْوَى أَوْ مُرُوءَةٌ وَحَيَاءٌ يُسْتَقْبَحُ مَعَهُ الزِّنَا، أَوْ قَوِيَتْ شَهْوَتُهُ وَتَقْوَاهُ لَمْ تَحِلَّ لَهُ الْأَمَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخَافُ الزِّنَا فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرِقَّ وَلَدَهُ لِقَضَاءِ وَطَرٍ أَوْ كَسْرِ شَهْوَةٍ. وَأَصْلُ الْعَنَتِ الْمَشَقَّةُ، سُمِّيَ بِهِ الزِّنَا؛ لِأَنَّهُ سَبَبُهَا بِالْحَدِّ فِي الدُّنْيَا وَالْعُقُوبَةِ فِي الْآخِرَةِ. وَالْأَصْلُ فِيمَا ذُكِرَ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: ٢٥] إلَى قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [النساء: ٢٥] وَالطَّوْلُ السَّعَةُ، وَالْمُرَادُ بِالْمُحْصَنَاتِ الْحَرَائِرُ.
قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَبِالْعَنَتِ عُمُومِهِ لَا خُصُوصِهِ حَتَّى لَوْ خَافَ الْعَنَتَ مِنْ أَمَةٍ بِعَيْنِهَا لِقُوَّةِ مَيْلِهِ إلَيْهَا وَحُبِّهِ لَهَا، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا إذَا كَانَ وَاجِدًا لِلطَّوْلِ؛ لِأَنَّ الْعِشْقَ لَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِهِ هُنَا؛ لِأَنَّ هَذَا تَهْيِيجٌ مِنْ الْبَطَالَةِ وَإِطَالَةِ الْفِكْرِ، وَكَمْ مِنْ إنْسَانٍ اُبْتُلِيَ بِهِ وَسَلَاهُ اهـ. وَالْوَجْهُ تَرْكُ التَّقْيِيدِ بِوُجُودِ الطَّوْلِ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي جَوَازَ نِكَاحِهَا عِنْدَ فَقْدِ الطَّوْلِ فَيَفُوتُ اعْتِبَارُ عُمُومِ الْعَنَتِ مَعَ أَنَّ وُجُودَ الطَّوْلِ كَافٍ فِي الْمَنْعِ مِنْ نِكَاحِهَا، وَبِهَذَا الشَّرْطِ عُلِمَ أَنَّ الْحُرَّ لَا يَنْكِحُ أَمَتَيْنِ، وَأَنَّ الْمَمْسُوحَ وَالْمَجْبُوبَ ذَكَرُهُ لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ مُطْلَقًا وَهُوَ كَذَلِكَ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ
ــ
[حاشية البجيرمي]
الْمَجْبُوبِ وَالْمَمْسُوحِ اهـ ح ل.
قَوْلُهُ: (وَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ) غَايَةٌ.
قَوْلُهُ: (بِالْحَدِّ فِي الدُّنْيَا) أَيْ إنْ حُدَّ وَالْعُقُوبَةُ فِي الْآخِرَةِ إنْ لَمْ يُحَدَّ؛ قَالَهُ الْحَلَبِيُّ. فَالْوَاوُ بِمَعْنَى أَوْ وَيَصِحُّ بَقَاؤُهَا عَلَى بَابِهَا، وَيُرَادُ بِالْعُقُوبَةِ عُقُوبَةُ الْإِقْدَامِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَسْقُطُ عَنْهُ بِالْحَدِّ بَلْ بِالتَّوْبَةِ أَوْ مَحْضِ عَفْوِ اللَّهِ. وَعِبَارَةُ شَرْحِ م ر: لِأَنَّهُ سَبَبُهَا بِالْحَدِّ أَوْ الْعَذَابِ اهـ. فَعَبَّرَ بِ " أَوْ " بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحُدُودَ جَوَابِرُ فِي الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ الرَّاجِحُ، فَمَنْ حُدَّ فِي الدُّنْيَا لَا يُعَذَّبُ فِي الْآخِرَةِ كَمَا قَالَهُ ع ش.
قَوْلُهُ: (وَالْعُقُوبَةِ فِي الْآخِرَةِ) قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَرَاءَ الْعُقُوبَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ عُقُوبَاتٌ أُخْرَوِيَّةُ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: ظَوَاهِرُ الشَّرْعِ تَقْتَضِي سُقُوطَ الْمُطَالَبَةِ فِي الْآخِرَةِ إذَا أُقِيمَ الْحَدُّ فِي الدُّنْيَا. وَجَمَعَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ بِأَنَّ كَلَامَ الرَّافِعِيِّ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا مَاتَ وَلَمْ يَتُبْ وَكَلَامُ النَّوَوِيِّ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا تَابَ قَبْلَ مَوْتِهِ. وَعِبَارَةُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَقَدْ سُئِلَ النَّوَوِيُّ عَمَّنْ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً فَأُقِيمَ الْحَدُّ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا هَلْ تَسْقُطُ عَنْهُ الْعُقُوبَةُ فِي الْآخِرَةِ؟ فَقَالَ: ظَاهِرُ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ ذَلِكَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: إنْ تَابَ عَنْ الْمَعْصِيَةِ فِي الدُّنْيَا سَقَطَ عَنْهُ عِقَابُ الْآخِرَةِ وَإِنْ لَمْ يَتُبْ عُوقِبَ، وَهُوَ جَمْعٌ حَسَنٌ اهـ. فَتَلَخَّصَ أَنَّهُ لَا تَسْقُطُ عَنْهُ عُقُوبَةُ الْآخِرَةِ إلَّا إذَا وُجِدَ الْحَدُّ وَالتَّوْبَةُ مِنْ ذَنْبِ الْإِقْدَامِ أَوْ التَّوْبَةُ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الذَّنْبِ حَدٌّ.
قَوْلُهُ: (وَالْأَصْلُ فِيمَا ذُكِرَ) أَيْ مِنْ الشَّرْطَيْنِ. قَوْلُهُ: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا} [النساء: ٢٥] غِنًى. وَقَوْلُهُ: {أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ} [النساء: ٢٥] فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ صِفَةٍ لِطَوْلًا، أَيْ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ غِنًى يَبْلُغُ بِهِ نِكَاحَ الْمُحْصَنَاتِ يَعْنِي الْحَرَائِرَ لِقَوْلِهِ: {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: ٢٥] الْآيَةَ اهـ بَيْضَاوِيٌّ بِاخْتِصَارٍ. وَقَوْلُهُ " نِكَاحَ " مَأْخُوذٌ مِنْ أَنْ وَالْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُمَا فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ.
قَوْلُهُ: (الْمُؤْمِنَاتِ) جَرْيٌ عَلَى الْغَالِبِ، بَلْ لَوْ وَجَدَ حُرَّةً كِتَابِيَّةً امْتَنَعَ عَلَيْهِ التَّزْوِيجُ بِالْأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ اهـ م د.
قَوْلُهُ: (وَبِالْعَنَتِ عُمُومُهُ) أَيْ وَالْمُرَادُ بِالْعَنَتِ، أَيْ الَّذِي فِي الْآيَةِ. وَلَوْ قَالَ وَالْمُرَادُ بِالزِّنَا إلَخْ لَكَانَ أَوْلَى لِيَكُونَ تَفْسِيرًا لِكَلَامِهِ. وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّهُ إنَّمَا آثَرَ مَا فِي الْآيَةِ لِقُرْبِهِ وَشَرَفِهِ فَكَانَ بِالتَّفْسِيرِ أَحْرَى وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ تَفْسِيرُ مَا فِي كَلَامِهِ؛ وَلَعَلَّ هَذَا مَلْحَظُ الشَّارِحِ. قَوْلُهُ: (عُمُومُهُ) بِأَنْ خَافَ الزِّنَا بِأَيِّ امْرَأَةٍ كَانَتْ. وَعِبَارَةُ ح ل: لَيْسَ الْمُرَادُ عُمُومَهُ لِكُلِّ امْرَأَةٍ حَتَّى الرَّدِيئَةِ وَنَحْوِهَا، بَلْ أَنْ لَا يَخْتَصَّ بِوَاحِدَةٍ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ مَنْ تَحْتَهُ غَيْرَ صَالِحَةٍ لِلتَّمَتُّعِ يَخْشَى الْعَنَتَ.
قَوْلُهُ: (وَالْوَجْهُ تَرْكُ التَّقْيِيدِ) أَيْ بِقَوْلِهِ أَيْ الرُّويَانِيِّ إذَا كَانَ وَاجِدًا لِلطَّوْلِ، وَهُوَ كَذَلِكَ ق ل.
قَوْلُهُ: (مَعَ أَنَّ وُجُودَ الطَّوْلِ) أَيْ فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ عُمُومِ الْعَنَتِ.
قَوْلُهُ: (وَبِهَذَا الشَّرْطِ) أَيْ خَوْفِ الْعَنَتِ.
قَوْلُهُ: (لَا يَنْكِحُ أَمَتَيْنِ) أَيْ صَالِحَتَيْنِ فِيمَا يَظْهَرُ، خِلَافًا لِلْحَلَبِيِّ حَيْثُ قَالَ: وَلَوْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا غَيْرَ صَالِحَةٍ اهـ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ لَا يَنْكِحُ أَمَتَيْنِ أَيْ فِي عَقْدٍ مُطْلَقًا أَوْ فِي عَقْدَيْنِ سَوَاءٌ انْتَفَتْ الشُّرُوطُ الْمُتَقَدِّمَةُ أَمْ لَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا حَلَّ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ لِلضَّرُورَةِ وَهِيَ تَنْدَفِعُ بِوَاحِدَةٍ إلَّا فِي غَائِبَةٍ مَثَلًا فَلَهُ التَّزَوُّجُ وَلَوْ بِأَرْبَعِ