أَلْفَاظِ الْكِنَايَاتِ كَ تَجَرَّدِي، وَتَزَوَّدِي، أَيْ اسْتَعِدِّي لِلُّحُوقِ بِأَهْلِك، وَلَا حَاجَةَ لِي فِيك، أَيْ؛ لِأَنِّي طَلَّقْتُك، وَذُوقِي أَيْ مَرَارَةَ الْفِرَاقِ وَحَبْلُك عَلَى غَارِبِك، أَيْ خَلَّيْت سَبِيلَك كَمَا يُخَلَّى الْبَعِيرُ فِي الصَّحْرَاءِ وَزِمَامُهُ عَلَى غَارِبِهِ؛ وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الظَّهْرِ وَارْتَفَعَ مِنْ الْعُنُقِ لِيَرْعَى كَيْفَ شَاءَ، وَلَا أَنْدَهُ سَرْبَك مِنْ النَّدْهِ وَهُوَ الزَّجْرُ، أَيْ لَا أَهْتَمُ بِشَأْنِك؛ لِأَنِّي طَلَّقْتُك. وَالسَّرْبُ بِفَتْحِ السِّينِ وَسُكُونِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ الْإِبِلُ وَمَا يُرَاعَى مِنْ الْمَالِ أَمَّا بِكَسْرِ السِّينِ فَالْجَمَاعَةُ مِنْ الظِّبَاءِ وَالْبَقَرِ وَيَجُوزُ كَسْرُ السِّينِ هُنَا.
وَخَرَجَ بِقَيْدِ شَبَهِ مَا ذَكَرَ مَا لَا يُشْبِهُهُ مِنْ الْأَلْفَاظِ نَحْوُ: بَارَكَ اللَّهُ لِي فِيك وَأَطْعِمِينِي وَاسْقِينِي وَزَوِّدِينِي وَقُومِي وَاقْعُدِي وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَلَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ وَإِنْ نَوَاهُ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يَصْلُحُ لَهُ. (فَإِنْ نَوَى بِجَمِيعِ ذَلِكَ) أَيْ بِلَفْظٍ مِنْ أَلْفَاظِهِ (الطَّلَاقَ) فِيهِ (وَقَعَ) إنْ اقْتَرَنَ بِكُلِّ اللَّفْظِ كَمَا فِي الْمِنْهَاجِ كَأَصْلِهِ، وَقِيلَ: يَكْفِي اقْتِرَانُهَا بِأَوَّلِهِ وَيَنْسَحِبُ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، وَرَجَّحَهُ الرَّافِعِيُّ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ وَصَوَّبَهُ الزَّرْكَشِيّ؛ وَاَلَّذِي رَجَّحَهُ ابْنُ الْمُقْرِي وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ يَكْفِي اقْتِرَانُهَا بِبَعْضِ اللَّفْظِ سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ أَوَّلِهِ أَوْ وَسَطِهِ أَوْ آخِرِهِ إذْ الْيَمِينُ إنَّمَا تُعْتَبَرُ بِتَمَامِهَا.
تَنْبِيهٌ: اللَّفْظُ الَّذِي يُعْتَبَرُ قَرْنُ النِّيَّةِ بِهِ هُوَ لَفْظُ الْكِنَايَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَالْبَنْدَنِيجِيّ، لَكِنْ مَثَّلَ لَهُ
ــ
[حاشية البجيرمي]
قَوْلُهُ: (أَيْ خَلَّيْت سَبِيلَك) أَيْ طَلَّقْتُك وَصِرْت مُسْتَقِلَّةً بِنَفْسِك.
قَوْلُهُ: (لَا أَهْتَمُّ بِشَأْنِك) هَذَا تَفْسِيرٌ مُرَادٌ وَالْمَعْنَى الْأَصْلِيُّ لَا أَزْجُرُ جَمَاعَتَك الَّتِي أَنْتِ مَعَهُمْ، أَيْ لَيْسَ لِي تَسَلُّطٌ عَلَيْهِمْ. قَوْلُهُ: (وَمَا يُرْعَى مِنْ الْمَالِ) أَيْ غَيْرِ الظِّبَاءِ وَالْبَقَرِ وَالْوَحْشِ بِدَلِيلِ مَا بَعْدَهُ ح ل، وَالْأَوْلَى مِنْ الْحَيَوَانِ.
قَوْلُهُ: (مِنْ الظِّبَاءِ) وَكَذَا الْقَطَا وَالْوُحُوشُ فَيَكُونُ الْأَوَّلُ أَعَمَّ؛ قَالَ الشَّاعِرُ:
أَسِرْبَ الْقَطَا هَلْ مَنْ يُعِيرُ جَنَاحَهُ ... لَعَلِّي إلَى مَنْ قَدْ هَوِيت أَطِيرُ
قَوْلُهُ: (يُقَيِّدُ شَبَهَ مَا ذَكَرَ) أَيْ فِي قَوْلِهِ وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ أَلْفَاظِ الْكِنَايَاتِ.
قَوْلُهُ: (نَحْوُ بَارَكَ اللَّهُ فِيك) أَيْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ بِوَجْهٍ، بِخِلَافِ بَارَكَ اللَّهُ لَك فَكِنَايَةٌ سم.
قَوْلُهُ: (وَنَحْوُ ذَلِكَ) مِنْهُ عَلَيَّ السُّخَامُ لَا أَفْعَلُ كَذَا فَلَيْسَ صَرِيحًا وَلَا كِنَايَةً؛ لِأَنَّ لَفْظَ السُّخَامِ لَا يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ غَايَتُهُ أَنَّ مَنْ يَذْكُرُهَا يُرِيدُ التَّبَاعُدَ عَنْ لَفْظِ الطَّلَاقِ كَمَا ذَكَرَهُ ع ش عَلَى م ر. وَكُلِي وَاشْرَبِي كِنَايَةٌ عَلَى الْمُعْتَمَدِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ كُلِي أَلَمَ الْفِرَاقِ وَاشْرَبِي شَرَابَهُ أَوْ كُلِي وَاشْرَبِي مِنْ كِيسِك؛ لِأَنِّي طَلَّقْتُك؛ شَرْحُ التَّنْبِيهِ. قَالَ ابْنُ قَاسِمٍ: وَلَوْ أَتَى بِكِنَايَةٍ ثُمَّ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ نَوَى الطَّلَاقَ بِالْكِنَايَةِ لِيَدْفَعَ وُقُوعَ الثَّلَاثِ لِمُصَادَفَتِهِ الْبَيْنُونَةَ لَمْ يُقْبَلْ لِاتِّهَامِهِ حِينَئِذٍ اهـ. وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ صَرِيحًا فِي الطَّلَاقِ أُجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الصَّرِيحِ وَإِنْ كَانَ كِنَايَةً عِنْدَنَا، وَأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ كِنَايَةً عِنْدَهُمْ يُعْطَى حُكْمَهَا وَإِنْ كَانَ صَرِيحًا عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ عُقُودَهُمْ تَلْحَقُ بِمُعْتَقَدِهِمْ فَكَذَا طَلَاقُهُمْ. قَالَ م ر: وَمَحَلُّهُ إنْ لَمْ يَتَرَافَعُوا إلَيْنَا وَأَمَّا أَحْلَلْتُك لِلْأَزْوَاجِ فَكِنَايَةٌ وَكَذَا أَنْتِ حُرَّةٌ أَوْ لَا حَاجَةَ لِي فِيك أَوْ لَا سَبِيلَ لِي عَلَيْك.
قَوْلُهُ: (فَإِنْ نَوَى بِجَمِيعِ ذَلِكَ) أَيْ أَلْفَاظِ الْكِنَايَةِ. قَوْلُهُ: (فِيهِ) لَا حَاجَةَ إلَيْهِ، وَعَلَى ذِكْرِهِ يَكُونُ قَوْلُهُ بِكُلِّ اللَّفْظِ بَدَلًا مِنْهُ بِجَعْلِ الْبَاءِ بِمَعْنَى فِي وَهُوَ أَعْنِي قَوْلَهُ فِيهِ مُتَعَلِّقٌ بِنَوَى وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ لِلْجَمِيعِ، وَقَوْلُهُ بِكُلِّ اللَّفْظِ بَدَلٌ مِنْ فِيهِ كَمَا عَلِمْت وَمَعْنَى الْعِبَارَةِ: فَإِنْ نَوَى بِكُلِّ لَفْظٍ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ الْكِنَايَةَ وَكَانَتْ نِيَّتُهُ مُقْتَرِنَةً بِكُلِّ اللَّفْظِ وَقَعَ وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ، وَكَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي وَالْمُعْتَمَدُ الثَّالِثُ. قَوْلُهُ: (بِكُلِّ اللَّفْظِ) مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ أَيْ نِيَّةٍ مُقْتَرِنَةٍ بِكُلِّ اللَّفْظِ.
قَوْلُهُ: (وَيَنْسَحِبُ) أَيْ يَنْعَطِفُ وَيُعْطَى حُكْمُهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ فِي الْعِبَارَةِ قَلْبًا، وَالتَّقْدِيرُ: وَيَنْسَحِبُ الْأَوَّلُ عَلَى مَا بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي فِيهِ النِّيَّةُ. قَوْلُهُ: (وَاَلَّذِي رَجَّحَهُ ابْنُ الْمُقْرِي) هُوَ الْمُعْتَمَدُ. قَالَ الرَّمْلِيُّ: فَالْحَاصِلُ الِاكْتِفَاءُ بِهَا قَبْلَ فَرَاغِ لَفْظِهَا وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ. وَالْأَوْجَهُ مَجِيءُ هَذَا الْخِلَافِ فِي الْكِنَايَةِ الَّتِي لَيْسَتْ لَفْظًا كَالْكِتَابَةِ. قَوْلُهُ: (إذْ الْيَمِينُ) عِلَّةٌ لِصِحَّةِ اقْتِرَانِهَا بِآخِرِهِ.
قَوْلُهُ: (يُعْتَبَرُ قَرْنُ النِّيَّةِ بِهِ) أَيْ كُلًّا أَوْ بَعْضًا، عَلَى الْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ مِنْ اشْتِرَاطِ اقْتِرَانِهَا بِجَمِيعِ اللَّفْظِ أَوْ بِبَعْضِهِ.