للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -: «كَانَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ عَشْرَ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ فَنُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنْ الْقُرْآنِ» أَيْ يُتْلَى حُكْمُهُنَّ أَوْ يَقْرَؤُهُنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّسْخُ وَقِيلَ تَكْفِي وَاحِدَةٌ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَالْخَمْسُ رَضَعَاتٍ ضَبْطُهُنَّ بِالْعُرْفِ، إذْ لَا ضَابِطَ لَهَا فِي اللُّغَةِ وَلَا فِي الشَّرْعِ فَرُجِعَ فِيهَا إلَى الْعُرْفِ كَالْحِرْزِ فِي السَّرِقَةِ فَمَا قَضَى بِكَوْنِهِ رَضْعَةً أَوْ رَضَعَاتٍ اُعْتُبِرَ وَإِلَّا فَلَا، وَلَا خِلَافَ فِي اعْتِبَارِ كَوْنِهَا (مُتَفَرِّقَاتٍ) عُرْفًا فَلَوْ قَطَعَ الرَّضِيعُ الِارْتِضَاعَ بَيْنَ كُلٍّ مِنْ الْخَمْسِ إعْرَاضًا عَنْ الثَّدْيِ تَعَدَّدَ عَمَلًا بِالْعُرْفِ.

وَلَوْ قَطَعَتْ عَلَيْهِ الْمُرْضِعَةُ لِشُغْلٍ وَأَطَالَتْهُ ثُمَّ عَادَ تَعَدَّدَ كَمَا فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ لِأَنَّ الرَّضَاعَ يُعْتَبَرُ فِيهِ فِعْلُ الْمُرْضِعَةِ وَالرَّضِيعِ عَلَى الِانْفِرَادِ بِدَلِيلِ مَا لَوْ ارْتَضَعَ عَلَى امْرَأَةٍ نَائِمَةٍ أَوْ أَوْجَرَتْهُ لَبَنًا وَهُوَ نَائِمٌ.

وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يُعْتَدَّ بِقَطْعِهَا كَمَا يُعْتَدُّ بِقَطْعِهِ، وَلَوْ قَطَعَهُ لِلَهْوٍ أَوْ نَحْوِهِ، كَنَوْمَةٍ خَفِيفَةٍ أَوْ تَنَفُّسٍ أَوْ ازْدِرَادِ مَا جَمَعَهُ مِنْ

ــ

[حاشية البجيرمي]

سَبَبُ الْإِدْرَاكِ خَمْسٌ وَفِي هَذِهِ الْحِكْمَةِ نَظَرٌ لِأَنَّ كَوْنَ الْحَوَاسِّ خَمْسَةً لَا يَصْلُحُ حِكْمَةً لِكَوْنِ التَّحْرِيمِ بِخَمْسٍ وَيُمْكِنُ تَوْجِيهُهَا بِأَنَّ كُلَّ رَضْعَةٍ مُحَرِّمَةٍ لِحَاسَّةٍ مِنْ الْحَوَّاسِ اهـ.

قَوْلُهُ: (كَانَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ) خَبَرُ كَانَ مُقَدَّمٌ وَجُمْلَةُ عَشْرَ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ فِي مَحِلِّ رَفْعِ اسْمِ كَانَ مُؤَخَّرًا أَيْ كَانَ هَذَا التَّرْكِيبُ كَائِنًا فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَخْ. فَلَا يُقَالُ: الْقُرْآنُ أَعْنِي قَوْلَهَا أَيْ عَائِشَةَ: كَانَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْقُرْآنِ عَشْرَ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ لَا يَثْبُتُ بِالْآحَادِ فَلَا يَصِحُّ دَعْوَى النَّسْخِ لِعَدَمِ ثُبُوتِ الْمَنْسُوخِ. لِأَنَّا نَقُولُ: يَثْبُتُ الْحُكْمُ وَالْعَمَلُ بِهِ وَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ الْقُرْآنِيَّةُ، وَاكْتَفَى أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ بِرَضْعَةٍ وَاحِدَةٍ لِإِطْلَاقِ الْآيَةِ. وَجَوَابُهُ أَنَّ السُّنَّةَ بَيَّنَتْهُ اهـ سم.

قَوْلُهُ: (فِي الْقُرْآنِ) أَيْ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ ع ش.

قَوْلُهُ: (فَنُسِخْنَ) : أَيْ لَفْظًا وَحُكْمًا بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ وَنُسِخَتْ هَذِهِ الْخَمْسَةُ أَيْضًا لَفْظًا لَا حُكْمًا. فَائِدَةٌ: لَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِالتَّحْرِيمِ بِرَضْعَةٍ أَوْ رَضْعَتَيْنِ، هَلْ يُنْقَضُ حُكْمُهُ أَوْ لَا؟ الْمُعْتَمَدُ لَا يُنْقَضُ سم. وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا حَكَمَ بِثُبُوتِ الرَّضَاعِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ فَإِنَّهُ يُنْقَضُ حُكْمُهُ، وَلَعَلَّ الْفَرْقَ أَنَّ عَدَمَ التَّحْرِيمِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ بِالنَّصِّ بِخِلَافِهِ بِمَا دُونَ الْخَمْسِ اهـ ع ش.

قَوْلُهُ: (أَيْ يُتْلَى حُكْمُهُنَّ) وَهُوَ التَّحْرِيمُ وَمَعْنَى تِلَاوَةِ حُكْمِهِنَّ اعْتِقَادُ حُكْمِهِنَّ فَانْدَفَعَ بِهَذَا التَّأْوِيلِ مَا قَدْ يُقَالُ: يَلْزَمُ مِنْ قِرَاءَةِ الشَّيْءِ تِلَاوَتُهُ فَلَا فَائِدَةَ لِهَذَا التَّأْوِيلِ. وَقَوْلُهُ: مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّسْخُ أَيْ لِتِلَاوَتِهَا، وَإِنْ كَانَ حُكْمُهَا بَاقِيًا فَلَمَّا بَلَغَهُ النَّسْخُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا لَا تُتْلَى ح ل فَهُوَ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ كَيْفَ تَقُولُ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ إلَخْ مَعَ أَنَّ الْقُرْآنَ تَحَرَّرَ وَدُوِّنَ قَبْلَ وَفَاتِهِ وَهَذَا اللَّفْظُ نُسِخَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ. فَأَجَابَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْقِرَاءَةِ تِلَاوَةُ الْحُكْمِ أَيْ ذِكْرُهُ، أَوْ اعْتِقَادُهُ لَا حَقِيقَةُ قِرَاءَةِ اللَّفْظِ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقِرَاءَةِ الْقِرَاءَةُ حَقِيقَةً لَكِنْ مِنْ شَخْصٍ لَمْ يَبْلُغْهُ نَسْخُهَا فَهُوَ مَعْذُورٌ، فَلَمَّا بَلَغَهُ النَّسْخُ تَرَكَهَا، وَذَكَرَ فِي الْإِتْقَانِ جَوَابًا ثَالِثًا وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهَا: فَتُوُفِّيَ الْمُرَادُ مِنْهُ قَارَبَ الْوَفَاةَ قَوْلُهُ: (مُتَفَرِّقَاتٍ) مَنْصُوبُ صِفَةٍ لِرَضَعَاتٍ فِي كَلَامِ الْمَتْنِ وَالشَّارِحُ جَعَلَهُ خَبَرًا لِلسُّكُونِ الَّذِي قَدَّرَهُ فَغَيَّرَ إعْرَابَ الْمَتْنِ.

وَيُجَابُ بِأَنَّهُ لَمْ يُغَيِّرْهُ تَغْيِيرًا حَقِيقِيًّا لِأَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ.

قَوْلُهُ: (تَعَدَّدَ) أَيْ وَإِنْ لَمْ يَطُلْ الزَّمَنُ مَيْدَانِيٌّ قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ قَاسِمٍ: وَيَجْرِي ذَلِكَ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ فِي الْيَوْمِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فَيُعْتَبَرُ فِي التَّعَدُّدِ الْعُرْفُ فَلَوْ أَكَلَ لُقْمَةً ثُمَّ أَعْرَضَ وَاشْتَغَلَ بِشُغْلٍ طَوِيلٍ ثُمَّ عَادَ وَأَكَلَ حَنِثَ، وَلَوْ أَطَالَ الْأَكْلَ عَلَى الْمَائِدَةِ وَكَانَ يَنْتَقِلُ مِنْ لَوْنٍ إلَى لَوْنٍ آخَرَ وَيَتَحَدَّثُ فِي خِلَالِ الْأَكْلِ وَيَقُومُ وَيَأْتِي بِالْخُبْزِ عِنْدَ فَرَاغِهِ لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّ ذَلِكَ كُلُّهُ يُعَدُّ فِي الْعُرْفِ أَكْلَةً وَاحِدَةً بِرْمَاوِيٌّ.

قَوْلُهُ: (وَإِطَالَتِهِ) لَيْسَ قَيْدًا بَلْ وَلَوْ عَادَ فَوْرًا كَذَا قِيلَ. وَفِيهِ نَظَرٌ بَلْ هُوَ قَيْدٌ مُعْتَبَرٌ بِدَلِيلِ قَوْلِ الشَّارِحِ بَعْدُ أَوْ قَطَعَتْهُ الْمُرْضِعَةُ لِشُغْلٍ خَفِيفٍ، ثُمَّ عَادَتْ فَلَوْ لَمْ يَتَعَدَّدْ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا قَيْدًا لَتَنَاقَضَ كَلَامُهُ وَلَعَلَّ قَوْلَ بَعْضِهِمْ: إنَّهُ غَيْرُ قَيْدٍ سَهْوٌ مِنْهُ سَرَى إلَيْهِ مِنْ عَدَمِ التَّأَمُّلِ فِي عِبَارَةِ الشَّارِحِ مَعَ عِبَارَةِ م ر. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِأَنَّهَا إذَا قَطَعَتْهُ إعْرَاضًا وَلَوْ عَادَتْ فَوْرًا فَإِنَّهُ يَتَعَدَّدُ فَيُوهِمُ أَنَّ عِبَارَةَ الشَّارِحِ كَعِبَارَةِ م ر وَلَا يَخْفَى الْفَرْقُ بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ وَعِبَارَةِ الْمِنْهَاجِ وَشَرْحِ م ر.

فَلَوْ قَطَعَ الرَّضِيعُ الرَّضَاعَ إعْرَاضًا عَنْ الثَّدْيِ أَوْ قَطَعَتْهُ عَلَيْهِ الْمُرْضِعَةُ إعْرَاضًا ثُمَّ عَادَ إلَيْهِ فِيهِمَا وَلَوْ فَوْرًا تَعَدَّدَ الرَّضَاعُ اهـ.

قَوْلُهُ: (كَنَوْمَةٍ خَفِيفَةٍ) . أَمَّا إذْ نَامَ أَوْ

<<  <  ج: ص:  >  >>