وُجُوبًا ثُمَّ سَجَدَ وَلَا يَقْصِدُ غَيْرَهُ، فَلَوْ رَفَعَ خَوْفًا مِنْ شَيْءٍ كَحَيَّةٍ لَمْ يَكْفِ رَفْعُهُ لِذَلِكَ عَنْ رَفْعِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ صَارِفٌ كَمَا مَرَّ
(وَ) التَّاسِعُ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ (السُّجُودُ) مَرَّتَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: ٧٧] وَلِخَبَرِ: «إذَا قُمْت إلَى الصَّلَاةِ» وَإِنَّمَا عُدَّا رُكْنًا وَاحِدًا لِاتِّحَادِهِمَا، كَمَا عَدَّ بَعْضُهُمْ الطُّمَأْنِينَةَ فِي مَحَالِّهَا الْأَرْبَعِ رُكْنًا وَاحِدًا لِذَلِكَ.
وَهُوَ لُغَةً التَّضَامُنُ وَالْمَيْلُ، وَقِيلَ الْخُضُوعُ وَالتَّذَلُّلُ، وَشَرْعًا أَقَلُّهُ مُبَاشَرَةُ بَعْضِ جَبْهَتِهِ مَا يُصَلِّي عَلَيْهِ مِنْ أَرْضٍ أَوْ غَيْرِهَا لِخَبَرِ: «إذَا سَجَدَتْ فَمَكِّنْ جَبْهَتَك وَلَا تَنْقُرْ نَقْرًا» رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ. وَإِنَّمَا اكْتَفِي بِبَعْضِ الْجَبْهَةِ لِصِدْقِ اسْمِ السُّجُودِ عَلَيْهَا بِذَلِكَ، وَخَرَجَ بِالْجَبْهَةِ الْجَبِينُ وَالْأَنْفُ فَلَا يَكْفِي وَضْعُهُمَا، فَإِنْ سَجَدَ عَلَى مُتَّصِلٍ بِهِ كَطَرْفِ كُمِّهِ الطَّوِيلِ
ــ
[حاشية البجيرمي]
مِنْهُ فَإِنْ زَادَ عَلَيْهِ عَامِدًا عَالِمًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ اهـ. مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ وَالضَّابِطُ يُعَيِّنُ مَا قُلْنَاهُ
قَوْلُهُ: (اعْتَدَلَ وُجُوبًا) وَلَا يُشْكِلُ عَلَيْهِ مَا لَوْ شَكَّ فِي بَعْضِ حُرُوفِ الْفَاتِحَةِ بَعْدَ مُفَارَقَةِ مَحَلِّهَا، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَوْدُ لِأَنَّ الْفَاتِحَةَ لَمَّا كَانَ يَكْثُرُ الشَّكُّ فِيهَا لِكَثْرَةِ حُرُوفِهَا اُغْتُفِرَ ذَلِكَ قَوْلُهُ: (وَلَا يَقْصِدُ غَيْرَهُ) أَيْ فَقَطْ.
قَوْلُهُ: (السُّجُودُ مَرَّتَيْنِ) اُنْظُرْ وَجْهَ عَدِّهِ هُنَا رُكْنًا وَعَدِّهِ فِيمَا يَأْتِي فِي التَّخَلُّفِ بِثَلَاثَةِ أَرْكَانٍ طَوِيلَةٍ رُكْنَيْنِ، وَلَعَلَّهُمْ رَاعُوا هُنَاكَ فُحْشَ الْمُخَالَفَةِ فَعَدُّوهُمَا رُكْنَيْنِ لِلِاحْتِيَاطِ. وَاخْتُلِفَ فِي حِكْمَةِ تَكْرَارِهِ دُونَ بَقِيَّةِ الْأَرْكَانِ فَقِيلَ: إنَّهُ لِرَغْمِ أَنْفِ الشَّيْطَانِ حَيْثُ امْتَنَعَ مِنْ السُّجُودِ، وَقِيلَ لِإِجَابَةِ الدُّعَاءِ فِيهِ، وَقِيلَ إرْغَامًا لِلنَّفْسِ حَيْثُ اسْتَنْكَفَتْ عَنْ وَضْعِ أَشْرَفِ الْأَعْضَاءِ عَلَى مَحَلِّ مَوَاطِئِ الْأَقْدَامِ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ ق ل. أَيْ قِيلَ إنَّهُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّوَاضُعِ وَلِلشُّكْرِ عَلَى إجَابَةِ دُعَاءِ الْمُصَلِّي فِي السُّجُودِ الْأَوَّلِ اهـ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لَمَّا جَعَلَ اللَّهُ لَنَا الْأَرْضَ ذَلُولًا نَمْشِي فِي مَنَاكِبِهَا فَهِيَ تَحْتَ أَقْدَامِنَا نَطَؤُهَا بِهَا وَذَلِكَ غَايَةُ الذِّلَّةِ، فَأُمِرْنَا أَنْ نَضَعَ عَلَيْهَا أَشْرَفَ مَا عِنْدَنَا وَهُوَ الْوَجْهُ، وَأَنْ نُمَرِّغَهُ عَلَيْهَا جَبْرًا لِانْكِسَارِهَا بِوَضْعِ الشَّرِيفِ عَلَيْهَا الَّذِي هُوَ وَجْهُ الْعَبْدِ، فَاجْتَمَعَ بِالسُّجُودِ وَجْهُ الْعَبْدِ وَوَجْهُ الْأَرْضِ فَانْجَبَرَ كَسْرُهَا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى «أَنَا عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ» فَلِذَلِكَ كَانَ الْعَبْدُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ أَقْرَبَ إلَى اللَّهِ مِنْ سَائِرِ أَحْوَالِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ سَعَى فِي حَقِّ الْغَيْرِ لَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَهُوَ جَبْرُ انْكِسَارِ الْأَرْضِ مِنْ ذِلَّتِهَا اهـ مُنَاوِيٌّ عَلَى الْجَامِعِ الصَّغِيرِ. وَقَدْ سُئِلَ الْقَاضِي جَلَالُ الدِّينِ الْبُلْقِينِيُّ عَنْ حُكْمِ سُجُودِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَحْتَ الْعَرْشِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ حَيْثُ الْوُضُوءُ. فَأَجَابَ بِأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى طَهَارَةِ غُسْلِ الْمَوْتِ لِأَنَّهُ حَيٌّ فِي قَبْرِهِ وَلَا نَاقِضَ لِطَهَارَتِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ الْآخِرَةَ لَيْسَتْ دَارَ تَكْلِيفٍ فَلَا يَتَوَقَّفُ السُّجُودُ عَلَى وُضُوءٍ قَوْلُهُ: (وَهُوَ لُغَةً: التَّضَامُنُ وَالْمَيْلُ) قَالَ بَعْضُهُمْ: عَطْفُ الْمَيْلِ عَلَى التَّضَامُنِ لِلتَّفْسِيرِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: التَّضَامُنُ هُوَ ابْتِدَاءُ الْمَيْلِ وَالْمَيْلُ انْتِهَاؤُهُ.
قَوْلُهُ: (أَقَلُّهُ مُبَاشَرَةُ إلَخْ) كَانَ حَقُّهُ أَنْ يُبَيِّنَ حَقِيقَتَهُ أَوَّلًا بِأَنْ يَقُولَ: وَهُوَ وَضْعُ الْأَعْضَاءِ السَّبْعَةِ مَعَ التَّحَامُلِ وَالتَّنْكِيسِ، ثُمَّ يَذْكُرُ أَقَلَّهُ وَأَكْمَلَهُ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَكْمَلَهُ. وَعِبَارَةُ بَعْضِهِمْ: قَوْلُهُ أَقَلُّهُ إلَخْ فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ حَقِيقَةَ السُّجُودِ شَرْعًا تَحْصُلُ بِوَضْعِ الْجَبْهَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ: أَقَلُّهُ وَضْعُ الْجَبْهَةِ مَعَ بَقِيَّةِ الْأَعْضَاءِ السَّبْعَةِ.
وَيُجَابُ بِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ صَحِيحٌ أَيْضًا لِأَنَّ حَقِيقَةَ السُّجُودِ مَا ذَكَرَهُ، وَمَا زَادَ شُرُوطٌ لِلِاعْتِدَادِ بِهِ قَوْلُهُ (مُبَاشَرَةُ بَعْضِ جَبْهَتِهِ مَا يُصَلِّي عَلَيْهِ) أَيْ وَلَوْ عَلَى شَيْءٍ يَضَعُهُ تَحْتَهَا كَمِخَدَّةٍ إذَا عَجَزَ عَنْ وَضْعِهَا عَلَى الْأَرْضِ، وَمَحَلُّ وُجُوبِ الْمِخَدَّةِ إذَا حَصَلَ بِوَضْعِهَا التَّنْكِيسُ وَإِلَّا سُنَّتْ كَمَا فِي شَرْحِ م ر قَوْلُهُ: (مِنْ أَرْضٍ أَوْ غَيْرِهَا) كَبَدَنِ غَيْرِهِ أَوْ مَلْبُوسِ غَيْرِهِ، وَإِنْ كُرِهَ فِيهِمَا اهـ اج قَوْلُهُ: «إذَا سَجَدْت فَمَكِّنْ جَبْهَتَك» فِيهِ أَنَّ التَّمْكِينَ لَا يَسْتَلْزِمُ الْمُبَاشَرَةَ، فَالدَّلِيلُ أَعَمُّ مِنْ الْمُدَّعَى وَالْأَوْلَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute