مَاتَ (فِي مَعْرَكَةِ الْمُشْرِكِينَ) لِخَبَرِ الْبُخَارِيِّ عَنْ جَابِرٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ فِي قَتْلَى أُحُدٍ بِدَفْنِهِمْ بِدِمَائِهِمْ وَلَمْ يُغَسَّلُوا وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ» وَأَمَّا خَبَرُ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ فَصَلَّى عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ صَلَاتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ» فَالْمُرَادُ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ دَعَا لَهُمْ كَدُعَائِهِ لِلْمَيِّتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: ١٠٣] أَيْ اُدْعُ لَهُمْ وَسُمِّيَ شَهِيدًا لِشَهَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ بِالْجَنَّةِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ وَهُوَ مَنْ لَمْ تَبْقَ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ قَبْلَ انْقِضَاءِ حَرْبِ الْمُشْرِكِينَ بِسَبَبِهَا، كَأَنْ قَتَلَهُ كَافِرٌ أَوْ أَصَابَهُ سِلَاحُ مُسْلِمٍ خَطَأً، أَوْ عَادَ إلَيْهِ سِلَاحُهُ أَوْ رَمَحَتْهُ دَابَّتُهُ أَوْ سَقَطَ عَنْهَا، أَوْ تَرَدَّى حَالَ قِتَالِهِ فِي بِئْرٍ، أَوْ انْكَشَفَ عَنْهُ الْحَرْبُ وَلَمْ يُعْلَمْ سَبَبُ قَتْلِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَثَرُ دَمٍ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَوْتَهُ بِسَبَبِ الْحَرْبِ بِخِلَافِ مَنْ مَاتَ بَعْدَ انْقِضَائِهَا وَفِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ بِجِرَاحَةٍ فِيهِ، وَإِنْ قُطِعَ بِمَوْتِهِ مِنْهَا أَوْ قَبْلَ انْقِضَائِهَا لَا بِسَبَبِ حَرْبِ الْمُشْرِكِينَ كَأَنْ مَاتَ بِمَرَضٍ أَوْ فُجْأَةً أَوْ فِي قِتَالِ بُغَاةٍ فَلَيْسَ بِشَهِيدٍ وَيُعْتَبَرُ فِي قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ كَوْنُهُ مُبَاحًا وَهُوَ ظَاهِرٌ؛ أَمَّا الشَّهِيدُ الْعَارِي عَمَّا ذُكِرَ كَالْغَرِيقِ وَالْمَبْطُونِ
ــ
[حاشية البجيرمي]
الْكُفَّارِ لِإِخْرَاجِ شَهِيدِ الْآخِرَةِ كَالْمَبْطُونِ وَالْغَرِيقِ وَلَا حَاجَةَ إلَى التَّجْرِيدِ.
قَوْلُهُ: (وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ) بِكَسْرِ اللَّامِ وَفَتْحِهَا فَإِنْ قُلْتَ: الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ أَفْضَلُ مِنْ الشُّهَدَاءِ مَعَ أَنَّهُمْ يُغَسَّلُونَ وَيُصَلَّى عَلَيْهِمْ وَالْحِكْمَةُ الثَّانِيَةُ مَوْجُودَةٌ فِيهِمْ وَهِيَ التَّعْظِيمُ؟ قُلْت: يُجَابُ بِأَنَّ الشَّهَادَةَ فَضِيلَةٌ تُنَالُ بِالِاكْتِسَابِ فَرَغَّبَ الشَّارِعُ فِيهَا، وَلَا كَذَلِكَ النُّبُوَّةُ وَالرِّسَالَةُ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يُنَالَانِ بِالِاكْتِسَابِ كَمَا قَالَهُ اللَّقَانِيِّ: وَلَمْ تَكُنْ نُبُوَّةً مُكْتَسِبَةً.
قَوْلُهُ: (وَسُمِّيَ شَهِيدًا لِشَهَادَةِ اللَّهِ إلَخْ) فَشَهِيدٌ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ أَيْ مَشْهُودٍ لَهُ وَقِيلَ: لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَشْهَدُونَهُ فَيَقْبِضُونَ رُوحَهُ، وَعَلَيْهِ فَيَكُونُ شَهِيدٌ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ أَيْضًا وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يُبْعَثُ وَجُرْحُهُ يَتَفَجَّرُ يَشْهَدُ لَهُ وَعَلَيْهِ فَيَكُونُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَا قَبْلَهُ وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يَشْهَدُ الْجَنَّةَ حَالَ مَوْتِهِ فَيَكُونُ بِمَعْنَى فَاعِلٍ.
قَوْلُهُ: (وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ) قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لِلشَّهِيدِ عَشْرُ كَرَامَاتٍ: الْأُولَى يُغْفَرُ لَهُ بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهِ، الثَّانِيَةُ يَرَى مَقْعَدَهُ فِي الْجَنَّةِ حَالَ مَوْتِهِ، الثَّالِثَةُ يَخْلُفُهُ اللَّهُ فِي أَرْضِهِ، الرَّابِعَةُ يُحَلَّى بِتَحْلِيَةِ الْإِيمَانِ، الْخَامِسَةُ يُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، السَّادِسَةُ يَأْمَنُ مِنْ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ، السَّابِعَةُ يُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، الْيَاقُوتَةُ مِنْهُ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، الثَّامِنَةُ يُزَوَّجُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنْ الْحُورِ الْعِينِ التَّاسِعَةُ يُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَقَارِبِهِ وَأَهْلِهِ، الْعَاشِرَةُ يَحْيَا حَيَاةً طَيِّبَةً» قَالَ تَعَالَى {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: ١٦٩] . اهـ. عَبْدُ الْبَرِّ الَأُجْهُورِيُّ وَقَوْلُهُ: " يُزَوَّجُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ حُورِيَّةً " لَيْسَ هَذَا خَاصًّا بِهِ، فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يُزَوَّجُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ بِكْرٍ وَثَمَانِيَةِ آلَافِ أَيِّمٍ أَيْ ثَيِّبٍ وَمِائَةِ حَوْرَاءَ، فَيَجْتَمِعْنَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ فَيَقُلْنَ بِأَصْوَاتٍ حِسَانٍ لَمْ تَسْمَعْ الْخَلَائِقُ بِمِثْلِهِنَّ نَحْنُ الْخَالِدَاتُ فَلَا نَبِيدُ أَيْ نَهْلَكُ وَنَحْنُ النَّاعِمَاتُ فَلَا نَبْأَسُ وَنَحْنُ الرَّاضِيَاتُ فَلَا نَسْخَطُ وَنَحْنُ الْمُقِيمَاتُ فَلَا نَظْعَنُ طُوبَى لِمَنْ كَانَ لَنَا وَكُنَّا لَهُ» اهـ ذَكَرَهُ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ لِلسُّيُوطِيِّ.
قَوْلُهُ (وَهُوَ مَنْ لَمْ تَبْقَ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ) صَادِقٌ بِمَنْ مَاتَ؛ لِأَنَّ السَّالِبَةَ تَصْدُقُ بِنَفْيِ الْمَوْضُوعِ فَتَصْدُقُ بِأَنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ حَيَاةٌ أَصْلًا أَوْ فِيهِ حَيَاةٌ غَيْرُ مُسْتَقِرَّةٍ، أَفَادَهُ شَيْخُنَا الْعَشْمَاوِيُّ.
قَوْلُهُ: (قَبْلَ انْقِضَاءِ إلَخْ) هُوَ ظَرْفٌ لِلنَّفْيِ، أَيْ انْتَفَى ذَلِكَ قَبْلَ إلَخْ.
قَوْلُهُ: (بِسَبَبِهَا) أَيْ الْحَرْبِ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالنَّفْيِ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (سِلَاحُ مُسْلِمٍ خَطَأً) وَكَذَا عَمْدًا إنْ اسْتَعَانَ بِهِ الْكُفَّارُ عَلَيْنَا.
قَوْلُهُ: (أَوْ رَمَحَتْهُ) أَيْ رَفَسَتْهُ قَوْلُهُ: (أَوْ فُجْأَةً) بِالنَّصْبِ. اهـ. م د.
قَوْلُهُ: (أَوْ فِي قِتَالِ بُغَاةٍ) مَا لَمْ يَكُنْ الْقَاتِلُ لَهُ كَافِرًا اسْتَعَانَ بِهِ الْبُغَاةُ عَلَيْنَا، وَإِلَّا فَشَهِيدٌ دُونَ مَقْتُولِ الْبُغَاةِ اهـ أج.
قَوْلُهُ: (كَوْنُهُ مُبَاحًا) أَيْ مَأْذُونًا فِيهِ لِأَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَخَرَجَ بِهِ قِتَالُ الذِّمِّيِّينَ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ نَاقِضٌ لِلْعَهْدِ فَإِنَّهُ حَرَامٌ، أَفَادَهُ شَيْخُنَا الْعَشْمَاوِيُّ.
قَوْلُهُ: (أَمَّا الشَّهِيدُ الْعَارِي إلَخْ) وَهَذَا يُقَالُ لَهُ شَهِيدُ الْآخِرَةِ فَقَطْ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ شَهِيدَ الْآخِرَةِ أَنَّ لَهُ رُتْبَةً فِيهَا زَائِدَةً عَلَى غَيْرِهِ لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهَا لَا تَبْلُغُ رُتْبَةَ شَهِيدِ