للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بَأْسَ بِالْبُكَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ) قَبْلَ الْمَوْتِ وَبَعْدَهُ قَالَ فِي الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا: وَالْبُكَاءُ قَبْلَ الْمَوْتِ أَوْلَى مِنْ بَعْدِهِ لَكِنْ الْأَوْلَى عَدَمُهُ بِحَضْرَةِ الْمُحْتَضَرِ، وَالْبُكَاءُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْمَوْتِ خِلَافُ الْأَوْلَى لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ أَسَفًا عَلَى مَا فَاتَ نَقَلَهُ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الْجُمْهُورِ، وَلَكِنْ يَكُونُ (مِنْ غَيْرِ نَوْحٍ) وَهُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالنَّدْبِ قَالَهُ فِي الْمَجْمُوعِ وَهُوَ حَرَامٌ لِخَبَرِ: «النَّائِحَةُ إذَا لَمْ تَتُبْ تُقَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالسِّرْبَالُ الْقَمِيصُ وَالدِّرْعُ قَمِيصٌ فَوْقَهُ (وَلَا شَقِّ جَيْبٍ) وَنَحْوِهِ كَنَشْرِ شَعْرٍ وَتَسْوِيدِ وَجْهٍ وَإِلْقَاءِ رَمَادٍ عَلَى رَأْسٍ وَرَفْعِ صَوْتٍ بِإِفْرَاطٍ فِي اُلْبُكَا، أَيْ يَحْرُمُ ذَلِكَ لِخَبَرِ الشَّيْخَيْنِ «لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ» وَالْجَيْبُ هُوَ تَقْوِيرُ مَوْضِعِ دُخُولِ رَأْسِ

ــ

[حاشية البجيرمي]

لِلتَّنْجِيسِ

قَوْلُهُ: (وَلَا بَأْسَ) أَيْ لَا عَذَابَ لِأَنَّ الْبَأْسَ الْعَذَابُ، وَقَوْلُهُ " بِالْبُكَا إلَخْ " لِأَنَّهُ «- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَكَى عَلَى وَلَدِهِ إبْرَاهِيمَ قَبْلَ مَوْتِهِ وَقَالَ: إنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ وَلَا نَقُولُ إلَّا مَا يُرْضِي رَبَّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِك يَا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ» وَبَكَى عَلَى قَبْرِ بِنْتٍ لَهُ وَزَارَ قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ، شَرْحُ الْمَنْهَجِ.

قَوْلُهُ: (بِالْبُكَاءِ) بِالْقَصْرِ وَالْمَدِّ فَهُوَ بِالْقَصْرِ نُزُولُ الدُّمُوعِ وَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ، وَبِالْمَدِّ رَفْعُ الصَّوْتِ وَهَذَا أَيْضًا لَا بَأْسَ بِهِ إذَا كَانَ مِنْ غَيْرِ نَوْحٍ وَلَا شَقِّ جَيْبٍ وَنَحْوِهِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الرِّضَا.

قَوْلُهُ: (وَالْبُكَاءُ قَبْلَ الْمَوْتِ أَوْلَى مِنْ بَعْدِهِ) أَيْ أَوْلَى بِالْجَوَازِ لَا أَنَّهُ مَطْلُوبٌ وَعِبَارَةُ م ر فِي شَرْحِهِ: وَالْبُكَا عَلَيْهِ بَعْدَ الْمَوْتِ مَكْرُوهٌ، كَمَا نَقَلَهُ فِي الْأَذْكَارِ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ لِخَبَرِ: «فَإِذَا وَجَبَتْ فَلَا تَبْكِيَنَّ بَاكِيَةٌ قَالُوا: وَمَا الْوُجُوبُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الْمَوْتُ» رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ؛ لَكِنْ نُقِلَ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى، وَبَحَثَ السُّبْكِيُّ أَنَّهُ إنْ كَانَ اُلْبُكَا لِرِقَّةٍ عَلَى الْمَيِّتِ وَمَا يُخْشَى عَلَيْهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَأَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَمْ يُكْرَهْ وَلَا يَكُونُ خِلَافَ الْأَوْلَى وَإِنْ كَانَ لِلْجَزَعِ وَعَدَمِ التَّسْلِيمِ لِلْقَضَاءِ فَيُكْرَهُ أَوْ يَحْرُمُ؛ قَالَ الزَّرْكَشِيّ: هَذَا كُلُّهُ فِي الْبُكَاءِ بِصَوْتٍ، أَمَّا مُجَرَّدُ دَمْعِ الْعَيْنِ فَلَا مَنْعَ مِنْهُ، وَاسْتَثْنَى الرُّويَانِيُّ مَا إذَا غَلَبَهُ الْبُكَاءُ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ النَّهْيِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ الْبَشَرُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ وَفَصَّلَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إنْ كَانَ لِمَحَبَّةٍ وَرِقَّةٍ كَالْبُكَا عَلَى الطِّفْلِ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَالصَّبْرُ أَجْمَلُ، وَإِنْ كَانَ لِمَا فُقِدَ مِنْ عِلْمِهِ وَصَلَاحِهِ وَبَرَكَتِهِ وَشَجَاعَتِهِ فَيَظْهَرُ اسْتِحْبَابُهُ أَوْ لِمَا فَاتَهُ مِنْ بِرِّهِ وَقِيَامِهِ بِمَصَالِحِهِ فَيَظْهَرُ كَرَاهَتُهُ لِتَضَمُّنِهِ عَدَمَ الثِّقَةِ بِاَللَّهِ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (بِالنَّدْبِ) أَيْ بِتَعْدِيدِ مَحَاسِنِهِ، كَأَنْ يَقُولَ: وَاكَهْفَاهُ وَاجَمَلَاهُ وَاسَنَدَاهُ،.

قَوْلُهُ: (لِخَبَرِ النَّائِحَةِ إذَا لَمْ تَتُبْ إلَخْ) وَجَاءَ: " تَخْرُجُ النَّائِحَةُ مِنْ قَبْرِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَعْثَاءَ غَبْرَاءَ عَلَيْهَا جِلْبَابٌ مِنْ لَعْنَةٍ وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ وَاضِعَةً يَدَهَا عَلَى رَأْسِهَا تَقُولُ وَيْلَاه " وَجَاءَ: " لَا تُقْبِلُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى نَائِحَةٍ " وَجَاءَ: " لَيْسَ لِلنِّسَاءِ فِي اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ أَجْرٌ " ح ل.

قَوْلُهُ: (قَطِرَانٍ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ الطَّاءِ وَسُكُونِهَا وَخَصَّهُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي اشْتِعَالِ النَّارِ م ر وَهُوَ مَا يُدَاوَى بِهِ الْإِبِلُ الْجَرْبَى، وَهُوَ أَسْوَدُ مُنْتِنٌ تُشْعَلُ فِيهِ النَّارُ بِسُرْعَةٍ تُطْلَى بِهِ جُلُودُ أَهْلِ النَّارِ؛ فَشُبِّهَ طِلَاؤُهَا بِهِ بِالْقَمِيصِ بِجَامِعِ الْإِحَاطَةِ فَيَجْتَمِعُ عَلَيْهَا لَذْعُ الْقَطِرَانِ وَنَتْنُ رِيحِهِ مَعَ إسْرَاعِ النَّارِ فِي جِلْدِهَا كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ.

قَوْلُهُ: (فَوْقَهُ) الصَّوَابُ حَذْفُهُ، إذْ الْمَقْصُودُ أَنَّ الْجَرَبَ مُحِيطٌ بِجِلْدِهَا كَالدِّرْعِ وَالْقَطِرَانُ مَطْلِيٌّ بِهِ كَالْقَمِيصِ، فَاَلَّذِي يَكُونُ فَوْقَ الْآخَرِ هُوَ الْقَطِرَانُ الْمُشَبَّهُ بِالسِّرْبَالِ لَا الْجَرَبُ الْمُشَبَّهُ بِالدِّرْعِ، فَتَأَمَّلْ.

قَوْلُهُ: (بِإِفْرَاطٍ فِي اُلْبُكَا) الْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ، أَيْ مَعَ إفْرَاطٍ فِي اُلْبُكَا أَيْ جَرَيَانِ الدُّمُوعِ فَهُوَ بِالْقَصْرِ تَأَمَّلْ.

قَوْلُهُ: (لَيْسَ مِنَّا) مَحْمُولٌ عَلَى الزَّجْرِ وَالتَّغْلِيظِ أَوْ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ وَقَالَ وَلِيُّ اللَّهِ الْكَبِيرُ الشَّعْرَانِيُّ: لَيْسَ مِنَّا أَيْ عَلَى طَرِيقَتِنَا، وَعِبَارَتُهُ فِي الْمِيزَانِ: قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: مِنْ الْأَدَبِ إجْرَاءُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي خَرَجَتْ مَخْرَجَ الزَّجْرِ وَالتَّنْفِيرِ عَلَى ظَاهِرِهَا مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ فَإِنَّهَا إذَا أُوِّلَتْ خَرَجَتْ عَنْ مُرَادِ الشَّارِعِ كَحَدِيثِ: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» وَحَدِيثِ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ أَوْ تُطَيِّرَ لَهُ» وَحَدِيثِ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ» فَإِنَّ الْعَالِمَ إذَا أَوَّلَهَا بِأَنَّ الْمُرَادَ لَيْسَ مِنَّا فِي تِلْكَ الْخَصْلَةِ فَقَطْ، أَيْ وَهُوَ مِنَّا فِي غَيْرِهَا هَانَ عَلَى الْفَاسِقِ الْوُقُوعُ فِيهَا؛ وَقَالَ: الْمُخَالَفَةُ فِي خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ أَمْرٌ سَهْلٌ، فَكَانَ أَدَبُ السَّلَفِ بِعَدَمِ التَّأْوِيلِ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ لِلشَّارِعِ وَإِنْ كَانَتْ قَوَاعِدُ الشَّرِيعَةِ تَشْهَدُ أَيْضًا بِذَلِكَ التَّأْوِيلِ.

قَوْلُهُ: (وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ) كَأَنْ يَقُولَ: وَاكَهْفَاه وَاسَنَدَاهُ، وَلِبَعْضِهِمْ:

<<  <  ج: ص:  >  >>