للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بِهِ، وَلَكِنَّ الصَّوْمَ أَفْضَلُ لِمَا فِيهِ مِنْ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ وَعَدَمِ إخْلَاءِ الْوَقْتِ عَنْ الْعِبَادَةِ، وَلِأَنَّهُ الْأَكْثَرُ مِنْ فِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَّا إذَا تَضَرَّرَ بِهِ لِنَحْوِ مَرَضٍ أَوْ لَمْ يَشُقَّ عَلَيْهِ احْتِمَالُهُ فَالْفِطْرُ أَفْضَلُ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلًا صَائِمًا فِي السَّفَرِ قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ فَقَالَ: لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ أَنْ تَصُومُوا فِي السَّفَرِ» . نَعَمْ إنْ خَافَ مِنْ الصَّوْمِ تَلَفَ نَفْسٍ أَوْ عُضْوٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ حَرُمَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ كَمَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى. وَلَوْ لَمْ يَتَضَرَّرْ بِالصَّوْمِ فِي الْحَالِ. وَلَكِنْ يَخَافُ الضَّعْفَ لَوْ صَامَ وَكَانَ سَفَرَ حَجٍّ أَوْ غَزْوٍ فَالْفِطْرُ أَفْضَلُ كَمَا نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ عَنْ التَّتِمَّةِ وَأَقَرَّهُ.

ــ

[حاشية البجيرمي]

قَوْلُهُ: (السَّفَرَ الْمَذْكُورَ) أَيْ الطَّوِيلَ الْمُبَاحَ. قَوْلُهُ: (فَيَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ) هَذَا كَلَامٌ مُجْمَلٌ، ثُمَّ فَصَّلَهُ بِكَوْنِهِ تَارَةً يَكُونُ الْفِطْرُ أَفْضَلَ أَوْ الصَّوْمُ أَوْ وُجُوبُ الْفِطْرِ وَحُرْمَةُ الصَّوْمِ إلَخْ.

قَوْلُهُ: (الصَّوْمُ أَفْضَلُ) أَيْ إنْ لَمْ يَتَضَرَّرْ. وَقَوْلُهُ: " أَمَّا إذَا تَضَرَّرَ " مُقَابِلٌ لِهَذَا الْمُقَدَّرِ.

قَوْلُهُ: (ظَلَّلَ عَلَيْهِ) بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، أَيْ صَنَعَ لَهُ مِظَلَّةً. وَيَحْتَمِلُ الْبِنَاءَ لِلْمَفْعُولِ. فَلْتُرَاجَعْ الرِّوَايَةُ. قَوْلُهُ: (أَنْ تَصُومُوا إلَخْ) وَرُوِيَ: «لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» وَبِأَمْ بَدَلُ أَلْ. قَوْلُهُ: (وَكَانَ سَفَرَ حَجٍّ) هَذَا الْقَيْدُ لَيْسَ مَوْجُودًا فِي شَرْحِ الرَّوْضِ، وَقَيَّدَ الشَّارِحُ بِهِمَا لِفَضْلِهِمَا.

قَوْلُهُ: (عَنْ صَوْمِ التَّطَوُّعِ) وَصَوْمُ التَّطَوُّعِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ السَّنَةِ كَصَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ وَعَاشُورَاءَ وَتَاسُوعَاءَ. وَقِسْمٌ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْأُسْبُوعِ وَهُوَ الِاثْنَيْنُ وَالْخَمِيسُ، وَقِسْمٌ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الشُّهُورِ كَالْأَيَّامِ الْبِيضِ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ كَلَامِهِ.

قَوْلُهُ: (لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ إلَخْ) وَرَدَ: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» وَالصَّحِيحُ تَعَلُّقُ الْغُرَمَاءِ بِهِ، أَيْ أَصْلًا وَتَضْعِيفًا كَسَائِرِ الْأَعْمَالِ. بِخِلَافِ الْأَيْمَانِ فَلَا يَتَعَلَّقُونَ بِهِ. وَيَدُلُّك عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ يَتَعَلَّقُونَ بِهِ حَدِيثُ: «أَتَدْرُونَ مَنْ الْمُفْلِسُ» إلَخْ. وَحِينَئِذٍ فَتَخْصِيصُهُ بِكَوْنِهِ لَهُ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنْ الرِّيَاءِ مِنْ غَيْرِهِ. وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ عَلَى أَقْوَالٍ تَزِيدُ عَلَى خَمْسِينَ قَوْلًا، شَرْحُ م ر: وَمَا قِيلَ إنَّ التَّضْعِيفَ فِي الصَّوْمِ وَغَيْرِهِ لَا يُؤْخَذُ؛ لِأَنَّهُ مَحْضُ فَضْلِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُؤْخَذُ الْأَصْلُ وَهِيَ الْحَسَنَةُ الْأُولَى لَا غَيْرُ يُرَدُّ لِعُمُومِ خَبَرِ: «يُؤْخَذُ مِنْ حَسَنَاتِ الظَّالِمِ حَتَّى إذَا لَمْ يَبْقَ لَهُ حَسَنَةٌ وُضِعَ عَلَيْهِ مِنْ سَيِّئَاتِ الْمَظْلُومِ» فَإِذَا وُضِعَ عَلَيْهِ سَيِّئَتُهُ فَأَوْلَى أَخْذُ جَمِيعِ حَسَنَاتِ الْأَصْلِ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ صَارَ لَهُ وَمَحْضُ الْفَضْلِ جَارٍ فِي الْأَصْلِ أَيْضًا كَمَا هُوَ مُعْتَقَدُ أَهْلِ السُّنَّةِ. اهـ. حَجّ. وَعِبَارَةُ عَبْدِ الْبَرِّ: نَصُّهَا فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إلَّا الصِّيَامَ فَهُوَ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» فَإِضَافَتُهُ تَعَالَى إلَيْهِ إضَافَةُ تَشْرِيفٍ وَتَكْرِيمٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {نَاقَةَ اللَّهِ} [الشمس: ١٣] مَعَ أَنَّ الْعَالَمَ كُلَّهُ لِلَّهِ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ لَمْ يُعْبَدْ غَيْرُهُ بِهِ، فَلَمْ تُعَظِّمْ الْكُفَّارُ فِي عَصْرٍ مِنْ الْأَعْصَارِ مَعْبُودَاتِهِمْ بِالصِّيَامِ وَإِنْ كَانُوا يُعَظِّمُونَهُمْ بِصُورَةِ الصَّلَاةِ وَالسُّجُودِ وَغَيْرِهِمَا.

وَقِيلَ: لِأَنَّ الصِّيَامَ بَعِيدٌ عَنْ الرِّيَاءِ لِخَفَائِهِ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَالْغَزْوِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَاتِ الظَّاهِرَاتِ. قَالَ فِي فَتْحِ الْبَارِي: مَعْنَى النَّفْيِ فِي قَوْلِهِمْ " لَا رِيَاءَ فِي الصَّوْمِ " أَنَّهُ لَا يَدْخُلُهُ الرِّيَاءُ بِفِعْلِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَدْخُلُهُ الرِّيَاءُ بِالْقَوْلِ كَمَنْ يَصُومُ ثُمَّ يُخْبِرُ بِأَنَّهُ صَائِمٌ قَدْ يَدْخُلُهُ الرِّيَاءُ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ، فَدُخُولُ الرِّيَاءِ فِي الصَّوْمِ إنَّمَا يَقَعُ مِنْ جِهَةِ الْإِخْبَارِ بِخِلَافِ الْأَعْمَالِ، فَإِنَّ الرِّيَاءَ يَدْخُلُهَا بِمُجَرَّدِ فِعْلِهَا، وَعَنْ شَدَّادِ ابْنِ أَوْسٍ مَرْفُوعًا: «مَنْ صَامَ يُرَائِي فَقَدْ أَشْرَكَ» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَقِيلَ: لِأَنَّ الِاسْتِغْنَاءَ عَنْ الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ مِنْ الشَّهَوَاتِ مِنْ صِفَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى. فَلَمَّا تَقَرَّبَ الصَّائِمُ إلَيْهِ بِمَا يُوَافِقُ صِفَاتِهِ أَضَافَهُ إلَيْهِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّ أَعْمَالَ الْعِبَادِ مُنَاسِبَةٌ لِأَحْوَالِهِمْ إلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ مُنَاسِبٌ لِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْحَقِّ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إنَّ الصَّائِمَ تَقَرَّبَ إلَيَّ بِأَمْرٍ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِي وَهِيَ الصَّمَدَانِيَّةُ؛ لِأَنَّ الصَّمَدَ مَعْنَاهُ الَّذِي لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ، أَوْ لِكَوْنِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُنْفَرِدُ، بِعِلْمِ مِقْدَارِ ثَوَابِهِ وَتَضْعِيفِ حَسَنَاتِهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ، فَقَدْ أَظْهَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَعْضَ مَخْلُوقَاتِهِ عَلَى مِقْدَارِ ثَوَابِهَا؛ وَلِذَا قَالَ فِي بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ: «وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» وَقَدْ عُلِمَ بِأَنَّ الْكَرِيمَ إذَا أَخْبَرَ بِأَنَّهُ يَتَوَلَّى بِنَفْسِهِ الْجَزَاءَ اقْتَضَى ذَلِكَ سَعَةَ الْعَطَاءِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>