وَإِنَّهُ حَجَّ أَرْبَعِينَ سَنَةً مِنْ الْهِنْدِ مَاشِيًا. وَقِيلَ: مَا مِنْ نَبِيٍّ إلَّا حَجَّهُ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: لَمْ يَبْعَثْ اللَّهُ نَبِيًّا بَعْدَ
ــ
[حاشية البجيرمي]
قَوْلُهُ: (إنَّ أَوَّلَ مَنْ حَجَّ) أَيْ مِنْ الْبَشَرِ، فَلَا يُنَافِي قَوْلَ جِبْرِيلِ الْمَارَّ. وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِمْ يَحُجُّونَ بَلْ يَطُوفُونَ.
قَوْلُهُ: (وَأَنَّهُ حَجَّ أَرْبَعِينَ سَنَةً مِنْ الْهِنْدِ مَاشِيًا) عَلَى رِجْلَيْهِ، قِيلَ لِمُجَاهِدٍ: أَفَلَا كَانَ يَرْكَبُ؟ قَالَ: وَأَيُّ شَيْءٍ كَانَ يَحْمِلُهُ؟ وَقَوْلُهُ بَعْدَ إبْرَاهِيمَ لَيْسَ قَيْدًا أَخْذًا مِمَّا قَبْلَهُ، أَوْ الْمُرَادُ بَعْدَ طَلَبِهِ لِقَوْلِهِ: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: ٢٧] ق ل. وَقَوْلُهُ " طَلَبُهُ " أَيْ لِخَفَائِهِ بِسَبَبِ الطُّوفَانِ فَعِنْدَ ذَلِكَ أَرْسَلَ اللَّهُ سَحَابَةً بِقَدْرِ الْبَيْتِ فَبَنَى عَلَيْهَا كَمَا قَرَّرَهُ شَيْخُنَا. وَقَوْلُهُ " بَعْدَ إبْرَاهِيمَ " لَعَلَّهُ اسْتَنَدَ فِي ذَلِكَ لِظَاهِرٍ قَوْله تَعَالَى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: ٢٧] إلَخْ، وَإِلَّا فَالْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ وَهُوَ قَوْلُهُ: «مَا مِنْ نَبِيٍّ إلَّا وَحَجَّ» شَامِلٌ لِمَا قَبْلَ إبْرَاهِيمَ ع ش. وَذَكَرَ بَعْضُ الْأَفَاضِلِ مَا نَصُّهُ: وَأَمَّا سَبَبُ بِنَاءِ الْخَلِيلِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ -، فَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ مَوْضِعَ الْبَيْتِ قَدْ خَفِيَ وَدَرَسَ مِنْ الْغَرَقِ أَيَّامَ الطُّوفَانِ فَصَارَ مَوْضِعُهُ أَكَمَةً حَمْرَاءَ مَدَرَةً لَا تَعْلُوهَا السُّيُولُ، غَيْرَ أَنَّ النَّاسَ يَعْلَمُونَ أَنَّ مَوْضِعَ الْبَيْتِ فِيمَا هُنَاكَ وَلَا يُعَيِّنُونَهُ؛ وَكَانَ الْمَظْلُومُ يَأْتِيهِ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ وَيَدْعُو عِنْدَهُ فَقَلَّ مَنْ دَعَا هُنَاكَ إلَّا اُسْتُجِيبَ لَهُ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَحُجُّونَهُ وَلَا يَعْلَمُونَ مَكَانَهُ حَتَّى بَوَّأَهُ اللَّهُ لِخَلِيلِهِ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَأَعْلَمَهُ مَكَانَهُ. وَيُرْوَى أَنَّهُ لَمَّا بَوَّأَ اللَّهُ تَعَالَى لِخَلِيلِهِ مَكَانَ الْبَيْتِ وَأَمَرَهُ بِبِنَائِهِ أَقْبَلَ مِنْ الشَّامِ وَسِنُّهُ يَوْمَئِذٍ مِائَةُ سَنَةٍ وَسِنُّ ابْنِهِ إسْمَاعِيلَ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ، وَأَرْسَلَ اللَّهُ مَعَهُ السَّكِينَةَ لَهَا رَأْسٌ كَرَأْسِ الْهِرَّةِ وَجَنَاحَانِ وَفِي رِوَايَةٍ: كَأَنَّهَا غَمَامَةٌ فِي وَسَطِهَا مِنْ أَعْلَى كَهَيْئَةِ الرَّأْسِ تَتَكَلَّمُ وَكَانَتْ بِمِقْدَارِ الْبَيْتِ فَلَمَّا انْتَهَى الْخَلِيلُ إلَى مَكَّةَ وَقَفَتْ فِي مَوْضِعِ الْبَيْتِ وَنَادَتْ: يَا إبْرَاهِيمَ ابْنِ عَلَى مِقْدَارِ ظِلِّي لَا تَزِدْ وَلَا تَنْقُصْ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّهَا تَطَوَّقَتْ بِالْأَسَاسِ كَأَنَّهَا حَيَّةٌ. ثُمَّ إنَّ الْخَلِيلَ لَمَّا انْتَهَى فِي الْبِنَاءِ إلَى مَوْضِعِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ طَلَبَ مِنْ إسْمَاعِيلَ حَجَرًا يَضَعُهُ لِيَكُونَ عَلَمًا عَلَى بَدْءِ الطَّوَافِ، فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ مِنْ جَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَوْدَعَهُ إيَّاهُ لَمَّا غَرِقَتْ الْأَرْضُ؛ وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ الْحَجَرَ نَفْسَهُ نَادَى الْخَلِيلَ مِنْ أَبِي قُبَيْسٍ: هَا أَنَا ذَا، فَرَقَى إلَيْهِ فَأَخَذَهُ فَوَضَعَهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَقِيلَ: إنَّ الْجَبَلَ نَادَاهُ فَقَالَ لَهُ: يَا إبْرَاهِيمُ لَك عِنْدِي أَمَانَةٌ فَخُذْهَا، وَجَعَلَ الْخَلِيلُ طُولَ الْبَيْتِ فِي السَّمَاءِ تِسْعَةَ أَذْرُعٍ بِتَقْدِيمِ التَّاءِ، وَلَعَلَّهُ بِمِقْدَارِ مَا بَنَى وَإِلَّا فَطُولُهُ الْآنَ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ أَذْرُعُ سَيِّدِنَا إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - طَوِيلَةً، وَعَرْضُهُ عَلَى أَسَاسِ آدَمَ مِنْ الرُّكْنِ الْأَسْوَدِ إلَى الرُّكْنِ الشَّامِيِّ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ ذِرَاعًا، وَمِنْ الشَّامِيِّ إلَى الْغَرْبِيِّ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا، وَمِنْ الْغَرْبِيِّ إلَى الْيَمَانِيِّ أَحَدٌ وَثَلَاثُونَ ذِرَاعًا، وَمِنْ الْيَمَانِيِّ إلَى الْأَسْوَدِ عِشْرُونَ. وَجَعَلَ بَابَهُ بِالْأَرْضِ غَيْرَ مُبَوَّبٍ لَنَا، حَتَّى كَانَ تُبَّعُ الْحِمْيَرِيُّ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَهُ بَابًا وَغَلْقًا فَارِسِيًّا. «وَلَمَّا فَرَغَ إبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ أَنْ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ، فَقَالَ: يَا رَبِّ وَمَا يُبَلِّغُ صَوْتِي؟ فَقَالَ: أَذِّنْ وَعَلَيَّ الْبَلَاغُ، فَنَادَى إبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى الْمَقَامِ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ فَحُجُّوا، فَسَمِعَهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، حَتَّى مَنْ فِي الْأَصْلَابِ وَالْأَرْحَامِ، فَمَنْ أَجَابَ مَرَّةً حَجًّ مَرَّةً، وَمَنْ أَجَابَ مَرَّتَيْنِ حَجَّ مَرَّتَيْنِ، وَمَنْ أَجَابَ ثَلَاثًا حَجَّ ثَلَاثًا، وَمَنْ أَجَابَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ حَجَّ بِعَدَدِهِ» . وَقَدْ نَظَّمَ بَعْضُهُمْ جُمْلَةً مِنْ بَنِي الْبَيْتِ فَقَالَ:
بَنَى بَيْتَ رَبِّ الْعَرْشِ عَشَرٌ فَخُذْهُمْ ... مَلَائِكَةُ اللَّهِ الْكِرَامِ وَآدَمُ
فَشِيثُ فَإِبْرَاهِيمُ ثُمَّ عَمَالِقٌ ... قَصِيُّ قُرَيْشٍ قَبْلَ هَذَيْنِ جُرْهُمُ
وَعَبْدُ الْإِلَهِ بْنُ الزُّبَيْرِ بَنَى كَذَا ... بِنَاءٌ لِحُجَّاجٍ وَهَذَا مُتَمِّمُ
وَقَوْلُهُ " بِنَاءً لِحُجَّاجٍ " أَيْ بِجَانِبِ الْحَجَرِ فَقَطْ بِأَمْرِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَبَعْضُ الْبِنَاءِ كَانَ تَرْمِيمًا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute