إبْرَاهِيمَ إلَّا وَقَدْ حَجَّ الْبَيْتَ وَادَّعَى بَعْضُ مَنْ أَلَّفَ فِي الْمَنَاسِكِ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ إلَّا عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَاخْتَلَفُوا مَتَى فُرِضَ، فَقِيلَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ حَكَاهُ فِي النِّهَايَةِ وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ بَعْدَهَا وَعَلَيْهِ قِيلَ فُرِضَ فِي السُّنَّةِ الْخَامِسَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ وَجَزَمَ بِهِ الرَّافِعِيُّ فِي الْكَلَامِ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ عَلَى التَّرَاخِي. وَقِيلَ فِي السَّنَةِ السَّادِسَةِ وَصَحَّحَاهُ فِي كِتَابِ السِّيَرِ، وَنَقَلَهُ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الْأَصْحَابِ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَلَا يَجِبُ بِأَصْلِ الشَّرْعِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَحُجَّ بَعْدَ فَرْضِ الْحَجِّ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَهِيَ حَجَّةُ الْوَدَاعِ وَلِخَبَرِ مُسْلِمٍ: «أَحَجُّنَا هَذَا لِعَامِنَا أَمْ لِلْأَبَدِ؟ قَالَ: بَلْ لِلْأَبَدِ» وَأَمَّا حَدِيثُ الْبَيْهَقِيّ الْآمِرُ
ــ
[حاشية البجيرمي]
قَوْلُهُ: (أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ إلَّا عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ) قَالَ م ر بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ: لَكِنْ قَالَ جَمْعٌ إنَّهُ غَرِيبٌ بَلْ وَجَبَ عَلَى غَيْرِهَا أَيْضًا اهـ أج، فَسَقَطَ قَوْلُ ق ل؛ وَلَمْ يَرِدْ مَا يُنَاقِضُ تِلْكَ الدَّعْوَةَ.
قَوْلُهُ: (وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ بَعْدَهَا) هُوَ الْمُعْتَمَدُ لِأَنَّ سَائِرَ الْعِبَادَاتِ شُرِعَتْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ إلَّا الصَّلَاةَ كَمَا ذَكَرَهُ م د قَالَ ح ل فِي السِّيرَةِ، وَفِي كَلَامِ ابْنِ الْأَثِيرِ: «كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَحُجُّ كُلَّ سَنَةٍ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ» . وَفِي كَلَامِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ «حَجَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَبَعْدَهَا حِجَجًا لَا يُعْلَمُ عَدَدُهَا وَكَانَتْ تَطَوُّعًا» .
قَوْلُهُ: (أَنَّ الْحَجَّ عَلَى التَّرَاخِي) وَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ إلَى أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ، وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَلَيْسَ لَهُ نَصٌّ فِي ذَلِكَ؛ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ فِيهِ صَاحِبَاهُ فَذَهَبَ مُحَمَّدٌ إلَى أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي كَالشَّافِعِيِّ وَأَبُو يُوسُفَ إلَى أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ كَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ. اهـ. إطْفِيحِيٌّ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ حَيْثُ تَحَقَّقَ الْوُجُوبُ بِأَنْ اجْتَمَعَتْ شَرَائِطُهُ الْمَذْكُورَةُ فَهُوَ عَلَى التَّرَاخِي؛ لَكِنْ يُسَنُّ تَعْجِيلُهُ خُرُوجًا مِنْ خِلَافِ مَنْ أَوْجَبَ الْفَوْرَ، لَكِنْ لَوْ مَاتَ قَبْلَ أَدَائِهِ تَبَيَّنَ عِصْيَانُهُ مِنْ السَّنَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ سِنِي الْإِمْكَانِ حَتَّى لَوْ شَهِدَ شَهَادَةً وَلَمْ يَحْكُمْ بِهَا حَتَّى مَاتَ لَمْ يَحْكُمْ بِهَا كَمَا لَوْ بَانَ فِسْقُهُ وَإِنْ اسْتَشْكَلَ بِأَنَّهُ فِسْقٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَلَوْ كَانَ حَكَمَ بِهَا فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: إنْ كَانَ الْحُكْمُ بِهَا قَبْلَ آخِرِ سِنِي الْإِمْكَانِ لَمْ يُنْقَضْ أَوْ بَعْدَهُ نُقِضَ لِتَبَيُّنِ فِسْقِهِ عِنْدَ الشَّهَادَةِ. وَهَلْ الْمُرَادُ بِالسَّنَةِ الْأَخِيرَةِ أَوَّلُهَا أَوْ آخِرُهَا أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ؟ فِيهِ نَظَرٌ، وَيُتَّجَهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا زَمَنُ إمْكَانِ الْحَجِّ عَلَى عَادَةِ بَلَدِهِ وَكَمَوْتِهِ فِيمَا ذَكَرَ غَضَبَهُ، فَيَتَبَيَّنُ بَعْدَهُ فِسْقُهُ فِي آخِرِ سِنِي الْإِمْكَانِ وَفِيمَا بَعْدَهَا إلَى أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الِاسْتِنَابَةُ فَوْرًا؛ وَيُسْتَثْنَى مِنْ كَوْنِهِ عَلَى التَّرَاخِي مَا لَوْ خَشِيَ الْغَضَبَ بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ أَوْ الْمَوْتِ كَمَا قَالَهُ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ، أَوْ هَلَاكُ مَالِهِ؛ سم مَعَ بَعْضِ تَصَرُّفٍ.
قَوْلُهُ: (وَقِيلَ فِي السَّنَةِ السَّادِسَةِ) وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْفَرْضَ وَقَعَ سَنَةَ خَمْسٍ وَالطَّلَبَ إنَّمَا تَوَجَّهَ سَنَةَ سِتٍّ أج، أَيْ دَلِيلُ الْفَرْضِ نَزَلَ سَنَةَ خَمْسٍ وَتَوَجَّهَ الطَّلَبُ سَنَةَ سِتٍّ.
قَوْلُهُ: (وَلَا يَجِبُ بِأَصْلِ الشَّرْعِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً) فَإِنْ قُلْت: فَلِأَيِّ شَيْءٍ لَمْ تَجِبْ الْعُمْرَةُ وَالْحَجُّ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فِي الْعُمْرِ؟ وَلِمَ لَمْ يَتَكَرَّرْ كَالصَّلَوَاتِ وَالصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ وَالطَّهَارَةِ؟ فَالْجَوَابُ: إنَّمَا فَعَلَ الْحَقُّ ذَلِكَ رَحْمَةً بِخَلْقِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّ رَحْمَتَهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ، فَخَفَّفَ فِيهِمَا لِعِظَمِ الْمَشَقَّةِ فِي فِعْلِهِمَا غَالِبًا، لَا سِيَّمَا مَنْ أَتَى مِنْ مَسِيرَةِ سَنَةٍ؛ بِخِلَافِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِهَا. وَإِنَّمَا قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ بِاسْتِحْبَابِ الْعُمْرَةِ لَا وُجُوبِهَا لِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي أَفْعَالِ الْحَجِّ فَكَانَتْ كَالنَّوَافِلِ مَعَ الْفَرَائِضِ، ثُمَّ إنَّ فِي ذَلِكَ بِشَارَةً عَظِيمَةً لَنَا بِغُفْرَانِ ذُنُوبِنَا السَّابِقَةِ وَاللَّاحِقَةِ إذَا حَجَجْنَا مَرَّةً وَاحِدَةً فِي الْعُمْرِ وَلَوْلَا هَذِهِ الْمَغْفِرَةُ لَكَرَّرَ الْحَقُّ تَعَالَى عَلَيْنَا الْحَجَّ كُلَّ سَنَةٍ مَثَلًا لِيَغْفِرَ لَنَا ذُنُوبَ كُلِّ سَنَةٍ بِذَلِكَ الْحَجِّ، فَافْهَمْ؛ ذَكَرَهُ الْعَلَّامَةُ الشَّعْرَانِيُّ. وَقَوْلُ الشَّارِحِ: " وَلَا يَجِبُ " أَيْ عَيْنًا، وَإِلَّا فَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ كُلَّ عَامٍ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ النُّسُكَ إمَّا فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى مَنْ لَمْ يَحُجَّ بِشَرْطِهِ، أَوْ فَرْضُ كِفَايَةٍ لِإِحْيَاءِ الْكَعْبَةِ، أَوْ تَطَوَّعَ وَيُتَصَوَّرُ فِي الْأَرِقَّاءِ وَالصِّبْيَانِ؛ إذْ فَرْضُ الْكِفَايَةِ لَا يُتَوَجَّهُ إلَيْهِمْ شَرْحُ م ر.
قَوْلُهُ: (لَمْ يَحُجَّ بَعْدَ فَرْضِ الْحَجِّ إلَخْ) وَهَذَا أَدُلُّ دَلِيلٍ عَلَى عَدَمِ الْفَوْرِيَّةِ أج. فَإِنْ قُلْت: قَدْ يَكُونُ تَأْخِيرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا كَانَ لِعُذْرِ الْخِلَافَةِ وَاشْتِغَالِهِ بِأَمْرِهَا؟ قُلْت: قَالَ م ر فِي شَرْحِهِ: كَانَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَيَاسِيرُ لَا عُذْرَ لَهُمْ.
قَوْلُهُ: (حَجَّةُ الْوَدَاعِ) وَيُقَالُ لَهَا حَجَّةُ الْبَلَاغِ وَحَجَّةُ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَّعَ النَّاسَ فِيهَا وَلَمْ يَحُجَّ بَعْدَهَا، وَلِأَنَّهُ ذَكَرَ لَهُمْ مَا يَحِلُّ وَمَا يَحْرُمُ وَقَالَ لَهُمْ: " هَلْ بَلَّغْت؟ " قَالُوا: نَعَمْ. وَلِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَحُجَّ مِنْ الْمَدِينَةِ غَيْرَهَا وَكَانَتْ فِي السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute