للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قَصَدَ الْمَدِينَةَ الشَّرِيفَةَ لِزِيَارَتِهِ أَنْ يُكْثِرَ فِي طَرِيقِهِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ، فَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَصَدَ الرَّوْضَةَ وَهِيَ بَيْنَ قَبْرِهِ وَمِنْبَرِهِ وَصَلَّى تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ بِجَانِبِ الْمِنْبَرِ، ثُمَّ وَقَفَ مُسْتَدْبَرَ الْقِبْلَةِ مُسْتَقْبِلَ رَأْسِ الْقَبْرِ الشَّرِيفِ وَيَبْعُدُ عَنْهُ نَحْوَ أَرْبَعَةَ أَذْرُعٍ فَارِغَ الْقَلْبِ مِنْ عَلَقِ الدُّنْيَا، وَيُسَلِّمُ بِلَا رَفْعِ صَوْتٍ وَأَقَلُّهُ السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ يَتَأَخَّرُ صَوْبَ

ــ

[حاشية البجيرمي]

إذَا شَرِبَ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك عِلْمًا نَافِعًا وَرِزْقًا وَاسِعًا وَشِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ " فَقَدْ شَرِبَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَنَالُوا مَطْلُوبَهُمْ. وَيُسَنُّ الدُّخُولُ إلَى الْبِئْرِ وَالنَّظَرُ فِيهَا، وَيَنْضَحُ مِنْهَا عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وَصَدْرِهِ وَأَنْ يَتَزَوَّدَ مِنْ مَائِهَا وَيُسْتَصْحَبُ مِنْهُ مَا أَمْكَنَهُ شَرْحُ م ر.

قَوْلُهُ: (وَصَلَّى تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ) وَإِنَّمَا قُدِّمَتْ التَّحِيَّةُ عَلَى زِيَارَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ «عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَدِمْت مِنْ سَفَرٍ، فَجِئْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ بِفِنَاءِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: أَدَخَلْتَ الْمَسْجِدَ وَصَلَّيْت فِيهِ؟ فَقُلْت: لَا، قَالَ: فَاذْهَبْ فَادْخُلْ الْمَسْجِدَ صَلِّ فِيهِ ثُمَّ ائْتِ سَلِّمْ عَلَيَّ» وَبِهِ يُعْلَمُ رَدُّ قَوْلِ بَعْضِهِمْ مَحَلَّ الْبُدَاءَةِ بِالتَّحِيَّةِ لَمْ يَمُرَّ أَمَامَ الْوَجْهِ الشَّرِيفِ وَإِلَّا بَدَأَ بِالزِّيَارَةِ، بَلْ الْأَكْمَلُ الْبُدَاءَةُ بِالتَّحِيَّةِ مُطْلَقًا. وَعِنْدَ الْمُرُورِ أَمَامَ الْوَجْهِ الشَّرِيفِ يَنْبَغِي أَنْ يَقِفَ وَقْفَةً لَطِيفَةً وَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَتَنَحَّى وَيُصَلِّي ثُمَّ يَأْتِي لِلزِّيَارَةِ الْكَامِلَةِ، هَذَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ فَخِلَافُهُ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ اهـ مِنْ الْجَوْهَرِ الْمُنَظَّمِ.

قَوْلُهُ: (مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ) أَيْ فَيَكُونُ وُقُوفُهُ عِنْدَ الشُّبَّاكِ الْكَائِنِ فِي الْمَحَلِّ الْخَالِي مِنْ الْفُرُشِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ حِينَئِذٍ مُسْتَقْبِلَ الرَّأْسِ الشَّرِيفِ الْمُكَرَّمِ الَّذِي عِنْدَهُ الْكَوْكَبُ الْمُنِيرُ الْمُفَخَّمُ وَهُوَ بِهَذِهِ الْحَالَةِ مُسْتَدْبَرَ الْقِبْلَةَ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ بِالْحِسِّ. وَقَدْ عَايَنَتْ ذَلِكَ مَنَّ اللَّهِ عَلَيَّ بِالْعَوْدِ إلَى مَا هُنَالِكَ عَلَى أَحْسَنِ حَالٍ وَأَتَمِّ مِنْوَالٍ أَنَّهُ عَلَى ذَلِكَ وَغَيْرِهِ قَدِيرٌ فَعَّالٌ وَمُعْطِي النَّوَالِ قَبْلَ السُّؤَالِ أج.

قَوْلُهُ: (وَيَبْعُدُ عَنْهُ نَحْوُ أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ) وَاَلَّذِي فِي كُتُبِ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ: الْقُرْبُ أَوْلَى؛ وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَنَا الْبُعْدُ أَوْلَى. وَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي إيضَاحِهِ أَنَّ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ الصَّوَابِ الَّذِي أَطْبَقَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ كَمَا يَبْعُدُ عَنْهُ لَوْ حَضَرَ فِي حَيَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اهـ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُ أَئِمَّتِنَا: وَيَقْرُبُ زَائِرُ الْمَيِّتِ مِنْهُ كَقُرْبِهِ مِنْهُ حَيًّا؛ وَحِينَئِذٍ فَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ، فَقَوْلُ بَعْضِهِمْ إنَّ الْبُعْدَ بِأَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ أَوْ ثَلَاثَةٍ إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ أَيْ مِنْ النَّاسِ كَانُوا يُصَلُّونَ لِجِدَارِ الْقَبْرِ الشَّرِيفِ، وَأَمَّا الْآنَ فَقَدْ جُعِلَ عَلَيْهِ مَقْصُورَةٌ بَعِيدَةٌ عَنْهُ مَنَعَتْ النَّاسَ مِنْ الْوُصُولِ إلَيْهِ أَوْ إلَى قَرِيبٍ مِنْهُ فَإِنَّمَا يَقِفُ خَلْفَ الشُّبَّاكِ الْحَدِيدِ الَّذِي فِي الْمَقْصُورَةِ الدَّائِرَةِ حَوْلَ الْحُجْرَةِ الشَّرِيفَةِ، فَإِنْ تَمَكَّنَ مِنْ دُخُولِ الْمَقْصُورَةِ فَهُوَ أَوْلَى لِأَنَّهُ مَوْقِفُ السَّلَفِ سَوَاءٌ قُلْنَا يَبْعُدُ بِنَحْوِ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ أَوْ أَرْبَعَةِ يَرِدُ بِمَا ذَكَرْته مِنْ أَنَّ الْبُعْدَ كُلَّمَا زَادَ كَانَ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ اللَّائِقُ بِالْأَدَبِ، وَلِأَنَّهُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُهُمْ الْمَذْكُورُ اهـ مِنْ الْجَوْهَرِ الْمُنَظَّمِ فِي زِيَارَةِ الْقَبْرِ الْمُكَرَّمِ.

قَوْلُهُ: عُلَقُ الدُّنْيَا جَمْعُ عَلْقَةٍ كَغَرْفَةٍ وَغُرَفٍ أَيْ تَعَلُّقَاتُهَا وَالْعَلْقَةُ لُغَةً مَا يَبْتَلِعُ مِنْ الْعَيْشِ وَمِنْهُ إنَّمَا يَأْكُلْنَ الْعَلَقَةَ مِنْ الطَّعَامِ أَيْ الْقَلِيلَ كَمَا فِي التَّقْرِيبِ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْأَعَمُّ.

قَوْلُهُ: (وَيُسَلِّمُ بِلَا رَفْعِ صَوْتٍ) قَالَ الْعَلَّامَةُ حَجّ فِي الْجَوْهَرِ الْمُنَظَّمِ: يُسَنُّ لَهُ إذَا أَوْصَاهُ أَحَدٌ بِالسَّلَامِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَقُولَ: السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ أَوْ فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ يُسَلِّمُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَوْ نَحْوَ هَذَا مِنْ الْعِبَارَاتِ. فَإِنْ قُلْت: يَشْكُلُ عَلَى تَصْرِيحِهِمْ بِسُنَّةِ هَذَا قَوْلُهُمْ: لَوْ أُمِرَ إنْسَانٌ آخَرُ بِالسَّلَامِ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ، أَيْ إنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِعَدَمِ الْقَوْلِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ عَنْهُ، وَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ عَلَيْهِ الرَّدُّ بِلِسَانِهِ فَوْرًا كَمَا لَوْ كَانَ الْمُسْلِمُ حَاضِرًا، وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيٌّ فِي قَبْرِهِ فَلِمَ لَمْ يَجِبْ عَلَى مَنْ حَمَلَ سَلَامًا عَلَيْهِ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ نَظِيرَ مَا تَقَرَّرَ فِي الْحَيِّ. قُلْت: يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْقَصْدَ بِالسَّلَامِ ابْتِدَاءً وَرَدَا مِنْ الْأَحْيَاءِ التَّوَاصُلُ وَعَدَمُ التَّقَاطُعِ الَّذِي يَغْلِبُ وُقُوعُهُ بَيْنَ الْأَحْيَاءِ، وَحِينَئِذٍ فَإِرْسَالُ السَّلَامِ لِلْغَائِبِ الْقَصْدُ بِهِ مُوَاصَلَتُهُ وَعَدَمُ مُقَاطَعَتِهِ: وَإِذَا كَانَ هَذَا

<<  <  ج: ص:  >  >>