عاش أبو علي الفارسي عصر تمزق الدولة العباسية، وعاين الضعف والوهن الذي أصاب هذا الجسم العملاق ورأى بأمّ عينه كيف بدأ يتهاوى، من بعد إحكام البنيان، عرش بني العباس، فتداعت أصحاب المطامع كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، على الاستقلال بالبلاد والمقاطعات، وصار كل حاكم يدعو لنفسه، وينشئ دولة وبلاطا، وتسمّوا بأسماء الأمراء والسلاطين والملوك ولم يبق لخليفة بغداد إلا بغداد وما حولها وليس له من هيبة الخلافة إلا الرسم.
ولئن كانت الحياة السياسية في عصر أبي علي منحدرة، تعيش الأمة فيه عصر الدويلات وحكم الأمراء والسلاطين، لقد كانت الحياة العلمية بأنواعها متقدمة مزدهرة، ولم يحل تعدّد الدويلات والحكام بين انتقال العلماء من بلد إلى بلد ومن أمير إلى أمير أو سلطان إلى سلطان، فالبلاد الإسلامية كلها مفتوحة أمام جميع الناس، يتنقلون فيما بينها من دون حواجز أو موانع، فالبلاد، وإن كانت مفككة سياسيا، فهي مترابطة اجتماعيا وثقافيا. فعالم بغداد متصل بعالم خراسان وما وراء النهر شرقا، وبعالم إفريقيا والأندلس غربا، تسودهم ثقافة واحدة، وسلوك منتظم واحد تنظمه مبادئ الإسلام وقواعده.
إن هذا الالتئام الاجتماعي والثقافي كان له الأثر الأكبر على ازدهار