أصحابه، فلا غرابة بعد ذلك أن يغدو إماما من أئمة البصريين، وشيخا كبيرا من شيوخها المجتهدين في النحو. إذ كانت له شخصيّته البارزة في سوق الأدلة ومناقشتها، وعقلية نفّاذة غوّاصة في الوصول إلى خفايا المعاني، وتقليبها على وجوهها المختلفة، ثم ترجيح الوجه الذي يرتضيه، وإن خالف فيه غيره من أئمة البصريين. وكتاب الحجة الذي بين أيدينا خير دليل على ذلك.
[عقيدة أبي علي ومذهبه الفقهي:]
تكاد تجمع المصادر على أن أبا علي الفارسي كان متهما بالاعتزال، ولم يزيدوا شيئا على كلمة الاتهام هذه.
وأول من أطلق عليه هذه التهمة الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد نقلا عن محمد بن أبي الفوارس الذي قال:«في سنة تسع وسبعين وثلاثمائة توفي أبو علي الفسوي النحوي، ولم أسمع منه شيئا، وكان متهما بالاعتزال».
هذا هو النص بحروفه، ثم توالت المصادر تنقل العبارة بالمعنى نفسه، فلا تزيد على الاتهام بالاعتزال، ونقل هذه العبارة رجال الجرح والتعديل من أمثال الذهبي في الميزان وابن حجر في لسان الميزان، ولكنهما عقّبا على هذه العبارة بقولهما: لكنه صدوق في نفسه.
فهذه الشهادة لها مدلولها عند الذهبي، وهي تعني أن أبا علي ثقة يؤخذ بحديثه لأنه شهد بالشهادة نفسها لعمران بن حطان الخارجي بعد أن رمز له بأن البخاري وأبا داود والنسائي قد خرّجوا حديثه، فقال: فإن عمران صدوق في نفسه، قد روى عنه يحيى بن أبي كثير، وقتادة، ومحارب بن دثار. والحقيقة أن كلمة:«صدوق في نفسه» نعت لم أقف عليه إلا عند الذهبي، ووافقه عليه ابن حجر في لسان الميزان من دون أي تعليق عليه، فكاد يجعل في النفس شيئا لولا أنني وقفت على ما ذكره في ترجمة عمران بن حطان في ميزان الاعتدال [٣/ ٢٣٥] من توثيق لمن هذا نعته. والذي ينطبق على أبي علي.
وقد ذكر الذهبي في مقدمة ميزان الاعتدال وابن حجر في مقدمة لسان الميزان مراتب الرواة المقبولين، قال الذهبي: فأعلى العبارات في الرواة المقبولين:
ثبت حجة، وثبت حافظ، وثقة متقن، وثقة ثقة، ثم ثقة، ثم صدوق، ولا بأس به، وليس به بأس ...