تكون الأمة جميعها عصاة مخطئين في ترك ما تركوا منه، كيف وهم معصومون من ذلك؟ وأنت ترى ما في هذا القول، فإن القراءات المشهورة اليوم عن السبعة والعشرة، والثلاثة عشر بالنسبة إلى ما كان مشهورا في الأعصار الأول قلّ من كثر، ونزر من بحر، فإن من له اطّلاع على ذلك يعرف علمه العلم اليقين وذلك أن القرّاء الذين أخذوا عن أولئك الأئمة المتقدمين من السبعة وغيرهم، كانوا أمما لا تحصى، وطوائف لا تستقصى، والذين أخذوا عنهم أيضا أكثر وهلمّ جرّا. فلما كانت المائة الثالثة واتسع الخرق وقل الضبط، وكان علم الكتاب والسنّة أوفر ما كان في ذلك العصر، تصدى بعض الأئمة لضبط ما رواه من القراءات، فكان أول إمام معتبر جمع القراءات في كتاب:
أبو عبيد القاسم بن سلّام، وجعلهم فيما أحسب خمسة وعشرين قارئا مع هؤلاء السبعة، وتوفي سنة أربع وعشرين ومائتين. وكان بعده أحمد بن جبير بن محمد الكوفي نزيل أنطاكية جمع كتابا في قراءات الخمسة من كل مصر واحد وتوفي سنة ثمان وخمسين ومائتين. وكان بعده القاضي إسماعيل بن إسحاق المالكي صاحب قالون ألّف كتابا في القراءات جمع فيه قراءة عشرين إماما منهم هؤلاء السبعة توفي سنة اثنتين وثمانين ومائتين، وكان بعده الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري جمع كتابا حافلا سمّاه «الجامع» فيه نيّف وعشرون قراءة توفي سنة عشر وثلاثمائة، وكان بعيده أبو بكر محمد بن أحمد بن عمر الداجوني، جمع كتابا في القراءات وأدخل معهم أبا جعفر أحد العشرة، وتوفي سنة أربع وعشرين وثلاثمائة، وكان في أثره أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد، أول من اقتصر على قراءات هؤلاء السبعة فقط، وروى فيه عن هذا الداجوني وعن ابن جرير أيضا، وتوفي سنة أربع وعشرين وثلاثمائة.
وقام الناس في زمانه وبعده فألفوا في القراءات أنواع التواليف. ثم عدّد ابن الجزري طائفة منهم مع ذكر مؤلفاتهم وسنة وفاتهم ثم قال: ولا زال الناس يؤلفون في كثير القراءات وقليلها، ويروون شاذّها وصحيحها بحسب ما وصل إليهم أو صحّ لديهم، ولا ينكر أحد عليهم، بل هم في ذلك متبعون سبيل السلف حيث قالوا: القراءة سنّة متّبعة يأخذها الآخر عن الأول، وما علمنا أحدا أنكر شيئا قرأ به الآخر، إلا ما قدّمنا عن ابن شنّبوذ، لكنه خرج عن المصحف العثماني.