نظما أحسن تأليفا وأشد تلاؤما وتشاكلا من نظمه. وأما معانيه فكل ذي لب يشهد له بالتقدم في أبوابه، والرقيّ إلى أعلى درجاته.
وقد توجد هذه الفضائل الثلاث على التفرق في أنواع الكلام، وأما أن توجد مجموعة في نوع واحد منه فلم توجد إلا في كلام العليم القدير الذي أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا.
فخرج من هذا أن القرآن إنما صار معجزا لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف، مضمّنا أصح المعاني، من توحيد الله تعالى، وتنزيهه في صفاته، ودعاء إلى طاعته، وبيان لطريق عبادته، من تحليل وتحريم، وحظر وإباحة، ومن وعظ وتقويم، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وإرشاد إلى محاسن الأخلاق، وزجر عن مساويها، واضعا كل شيء منها موضعه الذي لا يرى شيء أولى منه ولا يتوهم في صورة العقل أمر أليق به منه، مودعا أخبار القرون الماضية، وما نزل من مثلات الله بمن عصى وعاند منهم، ومنبئا عن الكوائن المستقبلة في الأعصار الماضية من الزمان، جامعا في ذلك بين الحجة والمحتج له، والدليل والمدلول عليه، ليكون ذلك أوكد للزوم ما دعا إليه، وإنباء عن وجوب ما أمر به ونهى عنه.
ومعلوم أن الاتيان بمثل هذه الأمور، والجمع بين أشتاتها حتى تنتظم وتتسق امر تعجز عنه قوى البشر، ولا تبلغه قدرتهم، فانقطع الخلق دونه، وعجزوا عن معارضته بمثله، ومناقضته في شكله. ثم صار المعاندون له ممن كفر به وأنكره يقولون مرة إنه شعر لما رأوه منظوما، ومرة إنه سحر لما رأوه معجوزا عنه، غير مقدور عليه. وقد كانوا يجدون له وقعا في القلب، وقرعا في النفس، يريبهم ويحيرهم، فلم يتمالكوا أن يعترفوا به نوعا من الاعتراف، ولذلك قالوا: إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة. وكانوا مرة لجهلهم وحيرتهم يقولون أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا.