مع علمهم أن صاحبهما أمي وليس بحضرته من يملي أو يكتب شيئا ..
ثم أعلم أن عمود البلاغة التي تجتمع لها هذه الصفات هو وضع كل نوع من الألفاظ التي تشتمل عليها فصول الكلام موضعه الأخص الأشكل به، الذي إذا أبدل مكانه غيره جاء منه إما تبدل المعنى الذي يفسد به الكلام، أو إذهاب الرونق الذي تسقط به البلاغة، وذلك أن في الكلام ألفاظا مترادفة متقاربة المعاني في زعم أكثر الناس، كالعلم والمعرفة، والشح والبخل، والنعت والصفة، وكذا بلى ونعم، ومن وعن، ونحوها من الأسماء والأفعال والحروف، والأمر فيها عند الحذاق بخلاف ذلك، لأن لكل لفظة منها خاصة تتميز بها عن صاحبتها في بعض معانيها، وإن اشتركا في بعضها».
هذا النص الطويل يشير إلى كثير من الموضوعات البلاغية، كما أنه يشير إلى نظرية «النظم»، ويقدم أفكارا عنها. هذه النظرية أيضا قد أشار اليها أبو بكر الباقلاني (المتوفي سنة ٤٠٣) صاحب «إعجاز القرآن»، وهو من أشهر الكتب في هذا الباب، فقد ذكر أن من أسرار الإعجاز ما في القرآن في النظم والتأليف والترصيف، وأنه خارج عن جميع وجوه النظم المعتاد في كلام العرب (١). لكن الباقلاني لم يسلك مسلك الخطابي من حيث التوسع في شرح مفهومات البلاغة، وخصائص النظم والتأليف، بل شغل نفسه بمسائل كلامية عقلية لا نراها قادرة على الوفاء بإيضاح معنى الإعجاز وأسراره.
٨ - ولقد أتيح لفكرة «النظم» أن توضح على أحسن صورها وذلك على يد اللغوي البلاغي القدير عبد القاهر الجرجاني المتوفي عام ٤٧١. فهذا الرجل العبقري قد استطاع في كتابيه «دلائل الإعجاز»«وأسرار البلاغة» أن يضع الأسس التي قام عليها علم المعاني وعلم البيان. وقد توسع في إيضاح فكرة «النظم» بوصفه السر الكامن وراء كل كلام بليغ، واستعان بهذه الفكرة في إيضاح أسرار الإعجاز.
ويرى الدكتور مندور أن عبد القاهر الجرجاني قد اهتدى في العلوم اللغوية