للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والتعدد عن الوجود بكلِّ اعتبار، فلا يشهد غيرًا أصلًا، بل يشهد وجود العبد عين وجود الرب، بل ليس عندهم في الحقيقة ربٌّ وعبد.

وفناء هذه الطائفة في شهود الوجود كله واحد، وهو الواجب بنفسه، ما ثم وجودان ممكن، وواجب، ولا يفرقون بين كون وجود المخلوقات بالله - عز وجل -، وبين كون وجودها هو عين وجوده، وليس عندهم فرقان بين العالمين ورب العالمين، ويجعلون الأمر والنهي للمحجوبين عن شهودهم وفنائهم، والأمر والنهي تلبيس عندهم، والمحجوب عندهم يشهد أفعاله طاعات أو معاصي، ما دام في مقام الفرق، فإذا ارتفعت درجته شهد أفعاله كلها طاعات لا معصية فيها، لشهوده الحقيقة الكونية الشاملة لكل موجود، فإذا ارتفعت درجته عندهم فلا طاعة ولا معصية، بل ارتفعت الطاعات والمعاصي؛ لأنها تستلزم اثنينية وتعددًا، وتستلزم مطيعًا ومطاعًا، وعاصيًا ومعصيًّا، وهذا عندهم محض الشرك، والتوحيد المحض يأباه، فهذا فناء هذه الطائفة.

وأما عن شهود السوى: الفناء فهو الفناء الذي يشير إليه أكثر الصوفية المتأخرين، ويعدونه غاية ... وليس مرادهم فناء وجود ما سوى الله في الخارج، بل فناؤه عن شهودهم وحسِّهم، فحقيقته: غيبة أحدهم عن سوى مشهوده، بل غيبته أيضًا عن شهوده ونفسه؛ لأنه يغيب بمعبوده عن عبادته، وبمذكوره عن ذكره، وبموجوده عن وجوده، وبمحبوبه عن حُبِّه، وبمشهوده عن شهوده" (١).

وقال ابن القيم - رحمه الله -: "لم يرد في الكتاب، ولا في السُّنَّة، ولا في كلام الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين مدح لفظ الفناء ولا ذمُّه، ولا استعملوا لفظه في هذا المعنى المشار إليه البتَّة، ولا ذكره مشايخ الطريق المتقدمون، ولا جعلوه غايةً ولا مقامًا، وقد كان


(١) مدارج السالكين ٢/ ٢٩٣ - ٢٩٥.

<<  <   >  >>