القوم (١) أحق بكلِّ كمال، وأسبق إلى كلِّ غاية محمودة، ونحن لا ننكر هذا اللفظ مطلقًا، ولا نقبله مطلقًا، ولا بدَّ فيه من التفصيل، وبيان صحيحه من معلوله، ...
فنقول: حقيقة "الفناء" المشار إليه هو استهلاك الشيء في الوجود العلمي الذهني، وهاهنا تَقسَّمه أهل الاستقامة وأهل الزيغ والإلحاد، فزعم أهل الاتحاد -القائلون بوحدة الوجود- أنَّ الفناء هو غاية الفناء عن وجود السوى، فلا يثبت للسوى وجود البتة، لا في الشهود ولا في العيان، بل يتحقق بشهود وحدة الوجود، فيعلم حينئذ أنَّ وجود جميع الموجودات هو عين وجود الحق، فما ثم وجودان، بل الموجود واحد، وحقيقة الفناء عندهم أن يفنى عمَّا لا حقيقة له، بل هو وهمٌ وخيال، فيفنى عمَّا هو فانٍ في نفسه، لا وجود له، فيشهد فناء وجود كل ما سواه في وجوده، وهذا تعبير محض، وإلا ففي الحقيقة ليس عند القوم "سوى" ولا "غير" وإنما السوى والغير في الوهم والخيال، فحول هذا الفناء يدندنون وعليه يحومون، وأمَّا أهل التوحيد والاستقامة: فيشيرون بالفناء إلى أمرين، أحدهما أرفع من الآخر، الأمر الأول: الفناء في شهود الربوبية والقيومية، فيشهد تفرُّد الرب تعالى بالقيومية والتدبير، والخلق والرزق، والعطاء والمنع، والضر والنفع، وأنَّ جميع الموجودات منفعلة لا فاعلة، وما له منها فعل فهو منفعل في فعله، محل محض لجريان أحكام الربوبية عليه، لا يملك شيئًا منها لنفسه ولا لغيره، فلا يملك ضرًّا ولا نفعًا، فإذا تحقق العبد بهذا المشهد؛ خمدت منه الخواطر والإرادات، نظرا إلى القيوم الذي بيده تدبير الأمور، وشخوصًا منه إلى مشيئته وحكمته فهو ناظر منه به إليه، فان بشهوده عن شهود ما سواه، ومع هذا فهو ساع في طلب الوصول إليه، قائمًا بالواجبات والنوافل.