ومقصود ابن عجيبة أنَّ كل موجود في الكون له هذه الصفات التي انفصلت من الذات الإلهيَّة، وسمَّاها عالم الملكوت، والذي ينظر لباطن هذه الموجودات لا يرى إلا الله، ولا شكَّ أنَّ مجرد تصور هذه العقيدة كاف بالعلم بفسادها، لذلك قال:
"إنَّ الحق -جلَّ جلاله- محيطٌ بكلِّ شيء، فأسرار ذاته العليَّة أحاطت بالوجود بأسره، فما فوق العرش هو عين ما تحت الثرى، فلو صعد أحدٌ إلى ما فوق العرش لوجد الله، ولو هبط إلى ما تحت الأرض السُّفلى لوجد الله؛ إذ عظمته أحاطته بكلِّ شيء، ومحت وجود كلِّ شيء، واعلم أنَّ الحق -جلَّ جلاله- منفرد بالوجود، لا شيء معه، غير أنَّ عظمة الذات الخارجة عن دائرة قبضة التكوين باقية على أصلها من اللطافة والكنزية، والعظمة الداخلة في القبضة حين دخلها التكثيف، وتحسَّست ليقع بها التجلِّي، استترت وتردّت برداء الكبرياء، فظهر فيها الضدان: العبودية والربوبية، والحس والمعنى، والقدرة والحكمة، فاستترت الربوبية برداء الكبرياء، فكان من اصطلاح الوحي التنزيلي أن يُخبر عن العظمة الأصلية، وينعت أوصافها، ويسكت عن العظمة الفرعية، التي وقع بها التجلِّي، سترًا لسرِّ الربوبية أن يظهر، إذ لو ظهر لفسد نظام عالم الحكمة، ولذلك قال سهل (١): للألوهية سرٌّ لو انكشف لبطلت النبوات، وللنبوات سرٌّ لو انكشف لبطل العِلم، وللعلم سرٌّ لو انكشف لبطلت الأحكام، فَسِرُّ الألوهية هو قيامها بالأشياء، وظهورها بها، بل لا وجود للأشياء معها، فلو انكشف هذا السرُّ لجميع الناس لاستغنوا عن العبادة والعبودية، ولبطلت أحكام النبوة؛ إذ النبوة إنما هي لبيان العبادة وآداب العبودية، وعند ظهور
(١) سهل بن عبد الله التستري، أحد كبار المتصوفة، ولد سنة ٢٠٠ هـ، له تصانيف منها: تفسير القرآن، ورقائق المحبين، ومواعظ العارفين، توفي سنة ٢٨٣ هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء ١٣/ ١٤٣، وطبقات الصوفية، للسلمي، ص ٢٠٦ - ٢١١.