للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

هذا السر يقع الاستغناء عن تلقي الوحي، وأيضًا ليست القلوب كلها تقدر على حمل هذا السر، فلو تجلَّى للقلوب الضعيفة لوقع لها الدهش والحيرة، وربما أدَّاها إلى التلف.

وسرُّ النبوات هو: سدل الحجاب بين الله وعباده، حتى يفتقر الناس إلى تلقِّي العلم بواسطة النبوة، فلو انكشف هذا الحجاب لوقع الاستغناء عن النبوة، لتلقِّيه حينئذٍ كشفًا بدونها من غير تكلُّف، وسر العلم هو إبهام العواقب، فلو انكشف هذا السرُّ وعرف كلُّ واحدٍ مآله للجنَّة أو النار لبطلت الأحكام؛ إذ مَن عرف أنه للجنَّة قطعًا استغنى عن العبادة، ومَن عرف أنه للنَّار قطعًا انهمك في المعاصي، فأخفى الله هذا السرَّ ليعمل كلُّ واحدٍ على الرجاء والخوف" (١).

ولذلك انحرفوا حتى في العبادة التي لا يجوز صرفها لغير الله - عز وجل -، فهذا هو قول أهل الوحدة الذين جوَّزوا أن يعبد كل شيء، قال ابن تيمية: "فإنهم أجمعوا على كلِّ شرك في العالم، وعدلوا بالله كل مخلوق، وجوَّزوا أن يعبد كل شيء، ومع كونهم يعبدون كل شيء فيقولون: ما عبدنا إلا الله، فاجتمع في قولهم أمران: كل شرك، وكل جحود وتعطيل مع ظنهم أنهم عبدوا الله" (٢).

كما أنَّ ابن عجيبة يعيب على الزُّهَّاد والعباد بأنهم لم يفهموا العبادة فحجبوا بعبادتهم وزهدهم فقال: "ولو عرفوا الله في كلِّ شيءٍ ما استوحشوا من شيء، ولأنسوا بكلِّ شيء ... " (٣)، وهذه هي عين عقيدة الحلول (٤) التي ضلَّت بسببها الصوفية قرونًا عديدة.


(١) البحر المديد ٦/ ٢٤٥ - ٢٤٦، ١/ ٩١، ١١٠، ٣/ ١٥١، ٤/ ٥٤٥.
(٢) مجموع الفتاوى ٢/ ٢٥٧.
(٣) إيقاظ الهمم، ص ٢٢٦ - ٢٢٨، وسيأتي بحثها في موضعها إن شاء الله.
(٤) سيأتي بحثها في الباب الثالث من هذا الكتاب.

<<  <   >  >>