للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

و (الوجه الثاني) يقع من كثير من الزُّهَّاد العُبَّاد الممتثلين لما يعلمون أنَّ الله أمر به المجتنبين لما يعلمون أنَّ الله نهى عنه، وأمور أخرى لا يعلمون أنها مأمور بها ولا منهي عنها، فلا يريدونها ولا يكرهونها لعدم العلم، وقد يرضونها من جهة كونها مخلوقة مقدَّرة، وقد يعاونون عليها، ويرون هذا موافقة لله وأنهم لما خلوا عن هوى النفس كانوا مأمورين بالرِّضا بكلِّ حادث، بل والمعاونة عليه. وهذا موضعٌ يقع فيه الغلط فإنَّ ما أحبه الله ورسوله علينا أن نحب ما أحبه الله ورسوله وما أبغضه الله ورسوله فعلينا أن نبغض ما أبغضه الله ورسوله.

وأمَّا ما لا يحبه الله ورسوله ولا يبغضه الله ورسوله كالأفعال التي لا تكليف فيها مثل أفعال النائم والمجنون، فهذا إذا كان الله لا يحبها ويرضاها ولا يكرهها ويذمها فالمؤمن أيضًا لا ينبغي أن يحبها ويرضاها ولا يكرهها.

وأما كونها مقدورة ومخلوقة لله فذاك لا يختص بها بل هو شامل لجميع المخلوقات, والله تعالى خلق ما خلقه لما شاء من حكمته ... وقول من قال: إنَّ العبد يكون مع الله كالميت مع الغاسل لا يصح ولا يسوغ على الإطلاق عن أحد من المسلمين، وإنما يقال ذلك في بعض المواضع، ومع هذا فإنما ذلك لخفاء أمر الله عليه، وإلا فإذا علم ما أمر الله به وأحبَّه، فلا بدَّ أن يحب ما أحبَّه الله، ويبغض ما أبغضه الله" (١).

وتجريد الإنسان من الإرادة وقع فيه الكثير من الصوفية، قال ابن تيمية: "وهذا الموضع يلتبس على كثير من السالكين، فيظنون أنَّ الطريقة الكاملة ألا يكون للعبد إرادة أصلًا، وأن قول أبي يزيد (٢): "أريد ألا أريد" -لمَّا قيل له: ماذا تريد؟ - نقصٌ


(١) مجموع الفتاوى ١٠/ ٤٨١ - ٤٨٥.
(٢) أبو يزيد, طيفور بن عيسى البسطامي، نسبة إلى بسطام، بلدة بين خراسان والعراق، يقول بوحدة الوجود، والفناء الصوفي، ويعرف أتباعه بالطيفورية أو البسطامية، مات سنة ٢٦١ هـ. ينظر: ميزان الاعتدال ٢/ ٣٤٦ - ٣٤٧.

<<  <   >  >>