للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وزعم ابن الفارض أنَّ الحُبَّ الإلهي (١) هو أساس كلِّ شيءٍ ولولاه لما كان هناك وجودٌ للكون أصلًا.

وكلُّ ذلك بأسلوبٍ رمزيٍّ أثناء وصفه للخمرة الأزلية، فيقول:

تَقَدَّمَ كلَّ الكائناتِ حديثُها ... قديمًا ولا شَكلٌ هناك ولا رسمُ

وقامت بها الأشياءُ ثم لحكمةٍ ... بها احتجبت عن كلِّ من لا له فهمُ

وهامت بها روحي بحيث تمازجا اتـ ... ـحادًا، ولا جِرْمٌ تخلَّلهُ جِرْمُ

ولذلك تجد من القوم من يحفظ قصيدة ابن الفارض وينشدها ظانًّا أنها من الدين.

وهذا لاشك في بطلانه، يقول ابن تيمية - رحمه الله -: "ومن قال: إنَّ لقول هؤلاء سرًّا خفيًّا وباطنَ حقٍّ وإنَّه من الحقائق التي لا يطلع عليها إلا خواص خواص الخلق، فهو أحد رجلين -إمَّا أن يكون من كبار الزنادقة أهل الإلحاد والمحال، وإمَّا أن يكون من كبار أهل الجهل والضلال، فالزنديق يجب قتله، والجاهل يُعرَّف حقيقة الأمر، فإن أصرَّ على هذا الاعتقاد الباطل بعد قيام الحجة عليه وجب قتله.

ولكن لقولهم سرٌّ خفيٌّ وحقيقة باطنة لا يعرفها إلا خواص الخلق، وهذا السرُّ هو أشدُّ كفرًا وإلحادًا من ظاهره؛ فإنَّ مذهبهم فيه دقَّةٌ وغموضٌ وخفاءٌ قد لا يفهمه كثيرٌ من الناس، ولهذا تجد كثيرًا من عوام أهل الدين والخير والعبادة ينشد قصيدة ابن الفارض ويتواجد عليها ويعظمِّها ظانًّا أنها من كلام أهل التوحيد والمعرفة، وهو لا يفهمها ولا يفهم مراد قائلها؛ وكذلك كلام هؤلاء يسمعه طوائف من المشهورين بالعلم والدين فلا يفهمون حقيقته، فإمَّا أن يتوقَّفوا عنه أو يعبِّروا عن مذهبهم بعبارة


(١) يقول ابن عربي: "العالم ما أوجده الله إلا عن الحب، فالحب يستصحب جميع المقامات والأحوال، فهو سار في الأمور كلها". الفتوحات المكية ٤/ ١٠٧.

<<  <   >  >>