وذكروا أن رافع بن عميرة بن جابر كان يرعى غنماً إذ غار الذئب عليها فاحتمل أعظم شاة منها فشد عليه رافع ليأخذها منه وقال: عجباً للذئب يحتمل ما حمل! قال: فأقعى الذئب غير بعيد وقال: أعجب منه أنت أخذت مني رزقاً رزقنيه الله تعالى. فقال رافع: يا عجباً للذئب يتكلم! فقال الذئب: أعجب من ذلك الخارج من تهامة يدعوكم إلى الجنة وتأبون إلا دخول النار. فأقبل الرجل إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، وقد جاءه جبريل، عليه السلام، فأنبأه بما كان، فقص النبي، صلى الله عليه وسلم، ما كان فآمن وصدق وقال:
رعيت الضأن أحميها بنفسي ... من اللص الخفي وكل ذيب
فلما أن رأيت الذئب يعوي ... وبشرني بأحمد من قريب
يبشرني بدين الحق حتى ... تبينت الشريعة للمنيب
رجعت له وقد شمرت ثوبي ... عن الكعبين معتمداً ركوبي
فألفيت النبي يقول قولاً ... صواباً ليس بالهزل الكذوب
ألا بلغ بني عمرو بن عوفٍ ... وأختهم جديلة أن أجيبي
دعاء المصطفى لا شك فيه ... فإنك إن تجيبي لا تخيبي
ومن محاسن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وبركته ما رواه محمد بن إسحاق عن سعيد بن مينا عن جابر بن عبد الله قال: عملنا مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الخندق وكانت عندي شويهة غير سمينة فقلت: والله لو صنعت هذه الشاة لرسول الله، صلى الله عليه وسلم. قال: فأمرت امرأتي فطحنت شيئاً من شعير فصنعت له منه خبزاً وذبحت الشاة فشويتها، فلما أمسينا وأراد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الانصراف قلت: يا رسول الله إني صنعت لك شويهة وشيئاً من خبز الشعير وأحب أن تنصرف معي إلى منزلي، وإنما أريد أن ينصرف معي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وحده. فلما قلت له ذلك قال: نعم، ثم أمر بصارخ فصرخ: انصرفوا إلى بيت جابر. فقلت: أنا لله وإنا إليه راجعون. وأقبل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والناس معه، فأخرجتها إليه فسمى ثم أكل وتواردها الناس كلما فرغ قوم قاموا وجاء قوم حتى صدر أهل الخندق عنها.
وروي عن محمد بن إسحاق أن ابنة لبشير بن سعد قالت: دعتني أمي ابنة رواحة فأعطتني حفنة تمر في ثوبي وقالت: يا بنية اذهبي إلى أبيك بهذا. قالت: فأخذتها وانطلقت بها فمررت برسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأنا ألتمس أبي فقال، عليه الصلاة والسلام: تعالي يا بنية، ما هذا معك؟ قلت: تمر بعثت به أمي إلى أبي بشير بن سعد. فقال: هاتي به. فصببته في كفي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فما ملأتهما، ثم أمر بثوب فبسط ثم دحا بالتمر عليه فتبدد فوق الثوب ثم قال لإنسان عنده: ناد في أهل الخندق أن هلموا إلى الغداء. فاجتمع أهل الخندق عليه فجعلوا يأكلون منه وجعل هو يزداد حتى صدر أهل الخندق عليه وهو يسقط من أطراف الثوب.
ومن آياته، صلى الله عليه وسلم، ما لا يعرفها إلا الخاصة وهي محاسن أخلاقه وأفعاله التي لم تجتمع لبشر من قبله ولا تجتمع لأحد من بعده، وذلك أنا لم نر ولم نسمع لأحد قط صبره وحلمه ووفاءه وزهده وجوده ونجدته وصدق لهجته وكرم عشيرته وتواضعه وعلمه وحفظه وصمته إذا صمت ونطقه إذا نطق ولا كعفوه وقلة امتنانه، ولم نجد شجاعاً قط إلا وقد فر مثل عامر فر عن أخيه الحكم يوم الرَّقم وعيينة فر عن أبيه يوم نسار وبسطام عن قومه يوم العظالى.
وكان له، صلى الله عليه وسلم، وقائع مثل أحد وحنين وغيرهما فلا يستطيع منافق أن يقول هاب حرباً أو خاف.
وأما زهده، صلى الله عليه وسلم، فإنه ملك من أقصى اليمن إلى شِحر عمان إلى أقصى الحجاز إلى عذار العراق ثم توفي، صلى الله عليه وسلم، وعليه دين ودرعه مرهون في ثمن طعام أهله، لم يبن داراً ولا شيد قصراً ولا غرس نخلاً ولا شق نهراً ولا استنبط عيناً واعتبر برديه اللذين كان يلبسهما وخاتمه.