قال: وكان لشريح القاضي ابن يكثر البطالة فنظر إليه شريح يوماً وهو يهارش بكلب له فكتب رقعة إلى معلمه وفيها هذه الأبيات:
ترك الصلاة لأكلبٍ يسعى بها ... طلب الهراش مع الغواة الرُّجس
فإذا أتاك فغطّه بملامة ... وعظته موعظة الرفيق الأكيس
فإذا هممت بضربه فبدرةٍ ... وإذا ضربت بها ثلاثاً فاحبس
وليحملن مني إليك صحيفةً ... نكراء مثل صحيفة المتلمّس
اعلم بأنك ما أتيت فنفسه ... مع ما يجرّعني أعزُّ الأنفس
فضربه المعلم عشراً عشراً. فقال له شريح: لم ثنّيت عليه الضرب؟ فقال: العشر الأولى للبطالة والثانية للبلادة حيث لا يدري ما يحمل.
[مساوئ المعلمين]
قيل: كان معلم يصلي بالناس في شهر رمضان وكان يقف على ما لا يوقف عليه، فقرأ: واتبعوا ما تتلو الشَّ، ثم قال: الله أكبر، فركع ثم قام في الثانية. فقلت: ما تراه يصنع؟ فلما قال: ولا الضالين، فقال: ياطين على ملك سليمان.
قال: وسمعت معلماً يقرأ بالناس في شهر رمضان: وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً وأكيد كيداً فمهل الكافرين أمهلهم رويداً.
وقال بعضهم: الله جل وعز أعان على عرامة الصبيان برقاعة المعلمين.
وقال فيهم بعض الشعراء:
وهل يستفيد العقل من كان دهره ... يروح على أنثى ويغدو على طفل
وقال آخر:
إذا كنت ورّاقاً فأنت محارفٌ ... وحسبك نوكى أن تكون معلما
[محاسن السؤال]
قال الجاحظ: سمعت شيخاً من المكدين وقد التقى مع شاب منهم قريب العهد بالصناعة فسأله الشيخ عن حاله فقال: بعن الله الكدية ولعن أصحابها من صناعة ما أخسها وأقلها، إنها ما علمت تخلق الوجه وتضع من الرجال، وهل رأيت مكدياً أفلح؟ قال: فرأيت الشيخ قد غضب والتفت إليه فقال: يا هذا أقلل الكلام فقد أكثرت، مثلك لا يفلح لأنك محروم ولم تستحكم بعد وإن للكدية رجالاً فما لك ولهذا الكلام! ثم التفت فقال: اسمعوا بالله يجيئنا كل نبطيّ قرنانٍ وكل حائك صفعان وكل ضرّاط كشحان يتكلم سبعاً في ثمان إذا لم يصب أحدهم يوماً شيئاً ثلب الصناعة ووقع فيها، أوما علمت أن الكدية صناعة شريفة وهي محببة لذيذة صاحبها في نعيم لا ينفد فهو على بريد الدنيا ومساحة الأرض وخليفة ذي القرنين الذي بلغ المشرق والمغرب حيث ما حلّ لا يخاف البؤس، يسير حيث شاء، يأخذ أطايب كل بلدة؟ فهو أيام النرسيان والهيرون بالكوفة، ووقت الشبّوط وقصب السكر بالبصرة، ووقت البرنيّ والأزاذ والرّازقيّ والرمان المرمر ببغداد، وأيام التين والجوز الرطب بحلوان، ووقت اللوز الرطب والسختيان والطبرزد بالجبل، يأكل طيبات الأرض، فهو رخي البال حسن الحال لا يغتمّ لأهل ولا مال ولا دار ولا عقار، حيث ما حلّ فعلفه طبليّ، أما والله لقد رأيتني وقد دخلت بعض بلدان الجبل ووقفت في مسجدها الأعظم وعليّ فوطة قد ائتزرت بها وتعممت بحبل من ليف وبيدي عكازة من خشب الدفلى وقد اجتمع إلي عالم من الناس كأني الحجاج بن يوسف على منبره وأنا أقول: يا قوم رجل من أهل الشام ثم من بلد يقال له المصيصة من أبناء الغزاة والمرابطين في سبيل الله من أبناء الركّاضة وحرسة الإسلام، غزوت مع والدي أربع عشرة غزوة سبعاً في البحر وسبعاً في البر، وغزوت مع الأرمنيّ، قولوا رحم الله أبا الحسن، ومع عمر بن عبيد الله، قولوا رحم الله أبا حفص، وغزوت مع البطال بن الحسين والرنرداق بن مدرك وحمدان بن أبي قطيفة، وآخر من غزوت معه يازمان الخادم، ودخلت قسطنطينية وصليت في مسجد مسلمة بن عبد الملك، من سمع باسمي فقد سمع ومن لم يسمع فأنا أعرفه نفسي، أنا ابن الغزيّل بن الركان المصيصي المعروف المشهور في جميع الثغور والضارب بالسيف والطاعن بالرمح، سدٌّ من أسداد الإسلام نازل الملك على باب طرسوس فقتل الذراري وسبى النساء، وأُخذ لنا ابنان وحملا إلى بلاد الروم فخرجت هارباً على وجهي ومعي كتب من التجار فقطع عليّ وقد استجرت بالله ثم بكم فإن رأيتم أن تردّوا ركناً من أركان الإسلام إلى وطنه وبلده!