قال: شأنك. فأخرج أبو العتاهية يده من كمه وحركها وقال: يا ثمامة من حرّك يدي هذه؟ قلت: حركها من أمه زانية. قال: فضحك المأمون حتى فحص برجله وتمرّغ على فراشه وقال: زعمت أنك تقطعه بكلمة واحدة! فقال أبو العتاهية: شتمني يا أمير المؤمنين. قلت: ناقضت يا عاضّ بظر أمه! قال: فعاد المأمون في الضحك حتى خفت عليه من ضحكه وشدة ما ذهب له، ثم قلت: يا جاهل تحرك يدك وتقول من حركها! فإن كنت أنت المحرك لها فهو قولي وإن تكن الأخرى فما شتمتك! فقال المأمون: يا إسماعيل عندك زيادة في الكلام؟ فإن الجواب قد مضى فيما سألت. فما نطق بحرف حتى انصرف.
[محاسن المسايرة]
قال: فيما يُحكى عن أنوشروان أنه بينا هو في مسيرة له كان لا يسايره أحد من الخلق مبتدئاً وأهل المراتب على مراتبهم، فإن التفت يميناً دنا منه صاحب الحرس وإن التفت شمالاً دنا منه الموبذ فأمره بإحضار من أراد مسايرته. فالتفت في مسيره هذا يمينه فدنا منه صاحب الحرس فقال: فلان. فأحضره. فقال: عرفت حديث أردشير حين واقع ملك الخزر؟ وكان الرجل قد سمع من أنوشروان هذا الحديث مرة فاستعجم عليه وأوهمه أنه لا يعرفه، فحدثه أنوشراون هذا بالحديث وأصغى إليه الرجل بجوارحه كلها، وكان مسيرهما على شاطيء نهر، وترك الرجل النظر إلى موطيء قوائم دابته لإقباله على حديث أنوشروان، فزلّت إحدى رجلي دابته فمالت بالرجل إلى النهر فوقع في الماء ونفرت دابته فابتدرها حاشية الملك وغلمانه حتى أزالوها عن الرجل وجذبوه من تحتها وحملوه على أيديهم، فاغتم لذلك أنوشروان ونزل عن دابته وبُسط له هناك وأقام حتى تغدّى موضعه ذلك ودعا للرجل بثياب من خاص كسوته وألقيت عليه وأكل معه.
وقال: كيف أغفلت النظر إلى موطيء حافر دابتك؟ قال: أيها الملك إن الله جل وعز إذا أنعم على عبد بنعمة قابله بمحنة، وإنه جل ذكره أنعم عليّ نعمتين عظيمتين منهما إقبال الملك عليّ بوجهه من بين هذا السواد الأعظم، والأخرى هذه الفائدة وإقبال هذا الجيش الذي حدّث فيه عن أردشير، حتى لو رحلت من حيث تطلع الشمس إلى حيث تغرب فيه كنت رابحاً، فلما اجتمعت عليّ هاتان النعمتان الجليلتان في وقت واحد قابلتهما هذه المحنة، ولولا أساورة الملك وخدمه كنت بعرض هلكةٍ، ولو غرقت حتى أذهب عن جديد الأرض كان الملك قد أبقى لي ذكراً مخلداً باقياً ما بقي الضياء والظلام. فسر بذلك أنوشروان وقال: ما ظننتك بهذه المنزلة! فحشا فمه جوهراً ودراً ثميناً واستبطنه حتى غلب على أكثر أمره.
وحكي عن يزيد بن شجرة الرهاوي أنه بينا هو يسير مع معاوية ومعاوية يحدثه عن خزاعة ويومها وبني مخزوم وقريش، وكل هذا قبل الهجرة وكان يوم إشراف الفريقين على الهلكة حتى جاءهم أبو سفيان فارتفع ببعيره على رايته ثم أومأ بكمه إلى الفريقين فانصرفوا، فبينا معاوية يحدث يزيد بن شجرة بهذا الحديث إذ صك وجه يزيد حجر عائر فأدماه وجعلت الدماء تسيل من وجهه على ثوبه ما يمسحه. فقال له معاوية: لله أنت! أما ترى ما نزل بك؟ قال: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال: هذا دم وجهك يسيل على ثوبك! فقال: أعتق ما أملك إن لم يكن حديث أمير المؤمنين ألهاني حتى غمر فكري وغطى على قلبي فما شعرت بشيء حتى نبهني له أمير المؤمنين. فقال له معاوية: لقد ظلمك من جعلك في ألف من العطاء وأخرجك عن عطاء أبناء المهاجرين وحماة أهل صفين. وأمر له بمائة ألف درهم وزاد في عطائه ألف درهم وجعله بين ثوبه وجلده.
وحكي عن أبي بكر الهذلي أنه كان يساير أبا العباس السفاح إذ تحدث أبو العباس بحديث من أحاديث الفرس فعصفت الريح فرمت طستاً من سطح إلى طريق أبي العباس فارتاع من معه ولم يتحرك أبو بكر لذلك ولم تزل عينه مطابقة لعين أبي العباس. فقال له: ما أعجب شأنك يا هذا! لم ترع مما راعنا؟ فقال: يا أمير المؤمنين إن الله جل وعز يقول: ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه، وإنما للمرء قلب واحد، فلما غمر السرور قلبي بفائدة أمير المؤمنين لم يكن لحادث فيه مجال، وإن الله جل وعز إذا تفرد بكرامة أحد وأحب أن يبقي له ذكرها جعل ذلك على لسان نبيه أو خليفته، وهذه كرامة خصصت بها مال إليها ذهني وشغل بها فكري، فلو انقلبت الخضراء على الغبراء ما أحسست بها. فقال أبو العباس: لئن بقيت لك لأرفعن منك ما لا تطيف به السباع ولا تنحط عليه العقبان.