للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال: لما مات عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز جزع عليه عمر جزعاً شديداً، فقال ذات يوم لمن حضره: هل من منشد شعراً أتعزى به أو واعظ يخفف عني فأتعزى وأتسلى؟ فقال رجل من أهل الشام: يا أمير المؤمنين كلّ خليل مفارق خليله بأن يموت أو بأن يذهب إلى مكان. فتبسم عمر، رحمه الله، ثم قال: ويحك! مصيبتي فيك زادتني مصيبة. قيل: وأصيب الحجاج بمصيبة وعنده رسول عبد الملك بن مروان فقال: ليت أني وجدت إنساناً يخفف عني مصيبتي! فقال رجل ممن حضر: أقول؟ قال: قل. فقال: كل إنسان يفارق صاحبه يموت أو يصلب أو يقع من فوق البيت أو يقع البيت عليه أو يسقط في بئر أو يغشى عليه أو يكون شيء لا يعرفه. فضحك الحجاج وقال: مصيبتي في أمير المؤمنين أعظم حيث وجه بمثلك رسولاً!

[محاسن ما قيل في المراثي]

قال أبو عبيدة معمر بن المثنّى التيمي: أحسن مناطق الشعر المراثي والبكاء على الشيب، وكان بنو مروان لا يقبلون الشاعر إلا أن يكون راوية للمراثي، ويقولون: إن فيها ذكر معالي الأمور.

وقيل لأبي عبيدة: ما أجود الشعر؟ فقال: النمط الأوسط، يعني المراثي.

قال: وسألت أعرابياً: ما أجود الشعر عندكم؟ قال: ما رثينا به آباءنا وأولادنا، وذلك أنا نقولها وأكبادنا تحترق.

قيل: وقال المأمون لبعض جلسائه: ما أحسن ما قيل في المراثي؟ فقال قوله:

فتىً لم تكذّب موته نادباته ... بما قلن فيه لا ولا المادح المطري

فتىً لم يزل مذ شدّ عقد إزاره ... مشيد المعالي أو مقيماً على ثغر

قال الأصمعي: قدم علينا أعرابي فأقام عندنا أياماً ثم رجع إلى البادية فسأل عن إخوانه وأترابه فأُخبر أن الدهر أبادهم وأفناهم فبكى وأنشأ يقول:

ألا يا موت لم منك بداً ... أتيت فما تحيد ولا تحابي

كأنك قد هجمت على مشيي ... كما هجم المشيب على شبابي

قال أبو العيناء: ابن أبي طاهر أشعر الناس في بيتيه حيث يقول:

اذهبا بي إن لم يكن لكما عق ... رٌ إلى ترب قبره فاعقراني

وانصحا من دمي عليه فقد كا ... ن دمي من نداه لو تعلمان

وقال في مثله:

إذا ما المنايا أخطأتك وصادفت ... حميمك فاعلم أنها ستعود

وإن امرأً ينجو من النار بعدما ... تزوّد من أعمالها لسعيد

عبد الرحمن بن عيسى بن حماد الهمذاني في حمولة كاتب أحمد بن عبد العزيز:

حسنت لفقدك كثرة الأحزان ... بل هان بعدك نائب الحدثان

ما كان حقك أن تصير إلى البلى ... وأعيش لولا قسوة الإنسان

ولآخر:

إذا ما الدهر جرّ على أناسٍ ... كلاكله أناخ بآخرينا

فقل للشامتين بنا أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا

ولعبدة بن الطبيب في قيس بن عاصم:

عليك سلام الله قيس بن عاصمٍ ... ورحمته ما شاء أن يترحما

سلام امريءٍ وليته منك نعمةً ... إذا زار عن شحطٍ بلادك سلّما

فما كان قيسٌ هلكه هلك واحدٍ ... ولكنه بنيان قوم تهدما

البسّامي يرثي عبيد الله بن سليمان بن وهب:

قد انقضى العيش ومات الكمال ... وقال صرف الدهر أين الرجال

هذا أبو القاسم في نعشه ... قوموا انظروا كيف تزول الجبال

وله فيه:

لست مستسقياً لقبرك غيثاً ... كيف يظما وقد تضمن بحرا

أنت أولى بأن تعزى من النا ... س فقد مات بعدك الناس طرّا

ولأبي الحسين بن أبي البغل:

بعدت ديارك غير أني موجعٌ ... والهم مني في الحشا متداني

فاذهب فقد عمرت بشخصك حفرةٌ ... فضلت على متشامخ البنيان

ولئن صبرت فما صبرت تسليا ... لكن ذلك غاية الولهان

[مساوئ ما قيل في المراثي]

القاسم بن عبيد الله عند موته:

لا تأمننّ الدهر إني أمنته ... فلم يبق لي حالاً ولم يرع لي حقا

قتلت صناديد الرجال فلم أدع ... عدواً ولم أترك على ظهرها خلقا

وأفنيت دار الملك من كل بارع ... فشتتُّهم غرباً وشدرتهم شرقا

<<  <   >  >>