ولا تصر من حبل امريءٍ في رضى امريء ... فيتصلا يوماً وحبلك أبتر
[محاسن الصدق]
قال بعض الحكماء: عليك بالصدق فما السيف القاطع في كف الرجل الشجاع بأعز من الصدق، والصدق عز وإن كان فيه ما تكره، والكذب ذلّ وإن كان فيه ما تحب، ومن عرف بالكذب اتهم في الصدق.
وقيل: الصدق ميزان الله الذي يدور عليه العدل، والكذب مكيال الشيطان الذي يدور عليه الجور.
وقال ابن السماك: ما أحسبني أؤجر على ترك الكذب لأني أتركه أنفة.
وقال الشعبي: عليك بالصدق حيث ترى أنه يضرك فإنه ينفعك، واجتنب الكذب حيث ترى أنه ينفعك فإنه يضرك.
وعن أسماء بنت أبي بكر قالت: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: لا يصلح الكذب إلا في ثلاث: كذب الرجل لأهله ليرضيها، وإصلاح بين الناس، وكذب في حرب.
وقال بعض الحكماء: الصدق عز والكذب خضوع.
وقال آخر: لو لم يترك العاقل الكذب إلا مروءةً لقد كان حقيقاً بذلك فكيف وفيه المأثم والعار! ومن المعروفين بالصدق أبو ذر الغفاري، قال النبي، صلى الله عليه وسلم: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على أصدق ذي لهجة من أبي ذر.
ومنهم العباس بن عبد المطلب، حدثنا الحكم بن عيسى عن الأعمش عن الشعبي قال: اطلع العباس على النبي، صلى الله عليه وسلم، وعنده جبريل، عليه السلام، فقال له جبريل، عليه السلام: هذا عمك العباس؟ قال: نعم. قال: إن الله جل وعز يأمرك أن تقرأ عليه السلام، وتعلمه أن اسمه عبد الله الصادق وأن له شفاعة يوم القيامة. فأخبره، صلى الله عليه وسلم، بذلك، فتبسم العباس. فقال له النبي، صلى الله عليه وسلم: إن شئت أخبرتك مما تبسمت وإن شئت أن تقول فقل. قال: بل تعلمني يا رسول الله. قال: لأنك لم تحلف يميناً في جاهلية ولا إسلام برةً ولا فاجرةً ولم تقل لسائل لا. قال: والذي بعثك بالحق ما تبسمت إلا لذلك.
ومنهم علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، قال يوم النهروان لأصحابه: شدوا عليهم فوالله لا يقتلون عشرة ولا ينجو منهم عشرة.
فشدوا عليهم فوالله ما قتل من أصحابه تمام عشرة ولا نجا منهم تمام عشرة.
ثم قال: اطلبوا ذا الثديّة. فطلبوه فقالوا: لم نجده. فقال: والله ما كذبت قط ولا كُذبت، والله لقد أخبرني رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه يقتل مع شر جيلٍ يقتلهم خير جيل. ثم دعا ببغلة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فركبها فسار حتى وقفت على قليب فيه قتلى فقال: اقلبوا القتلى واطلبوه بينهم. فإذا هو سابع سبعةٍ، فلما أخرجه قال: الله أكبر! لولا أن تنكلوا فتتركوا العمل لأخبرتكم بما جعل الله جل وعز لمن قتلهم على لسان نبيه، صلى الله عليه وسلم.
ومن الأخبار في مثله قيل: دخل هشام بن عروة على المنصور فقال له: يا أبا المنذر أتذكر حيث دخلت عليك أنا وأخي مع أبي الخلائف وأنت تشرب سويقاً بقصبة يراعٍ فلما خرجنا من عندك قال أبي: استوصوا بالشيخ خيراً واعرفوا حقه فلا يزال في قومكم بقية ما بقي؟ قال: ما أُثبت ذاك يا أمير المؤمنين. فلامه بعض أهله وقالوا: يذكّرك أمير المؤمنين ما يمتّ به إليك وتقول له لا أذكره؟ فقال: لم أذكره ولم يعودني الله في الصدق إلا خيراً.
قال: قدم زياد على معاوية، فلما طال بهم المجلس حدثه زياد بحديث، فقال له معاوية: كذبت. فقال: مهلاً يا أمير المؤمنين فوالله ما حللت للكلام حبوة إلا على بيعة الصدق ولم أكذب، وحياة الكذب عندي موت المروءة، فاستحياه معاوية وقال: يغفر الله لك يا أخي، فكأني أرى بك حرب بن أمية في جميل شيمه وكرم أخلاقه.
قال: وكان الفضلبن الربيع يخاطب الرشيد فقال له الرشيد: كذبت. فقال: يا أمير المؤمنين وجه الكذب لا يقابل وجهك ولسانه لا يقابل جوابك.
[محاسن الكذب]
روي عن المغيرة بن إبراهيم قال: لم يرخص لأحد في الكذب إلا للحجاج بن علاط، فإنه لما فتحت خيبر قال لرسول الله: إن لي عند امرأة من قريش وديعة فإن أذن لي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن أكذب كذبة فلعلي أن أستلّ وديعتي. قال: فرخص له. فقدم مكة فأخبرهم أنه ترك رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أسيراً في أيديهم يأتمرون فيه، قائل يقول يقتل وقائل يقول لا بل يبعث إلى قومه فيكون ذلك منّة.