فجعل المشركون يتباشرون بذلك ويوئسون العباس عم النبي، صلى الله عليه وسلم، منه والعباس يريهم التجلد. وأخذ الرجل وديعته، فاستقبله العباس فقال: ويحك ما الذي أخبرت به؟! فأعمله السبب ثم أخبره أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد فتح خيبر واستنكح صفية بنت حيي بن أخطب وقتل أباها وزوجها، وقال له: اكتم عليّ اليوم وغداً حتى أمضي، ففعل ذلك. فلما مضى أخبرهم العباس بالذي أخبره فكبتوا.
وروي أن رجلاً أتى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إتي أستسرّ بخلال أربع: الزناء والسرق وشرب الخمر والكذب، فأيهن أحببت تركته لك سراً. فقال: دع الكذب. فمضى الرجل فهمّ بالزناء فقال: يسألني رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فإن جحدت نقضت ما جعلته له وإن أقررت حددت، فلم يزن، ثم همّ بالسرقة وبشرب الخمر ففكر في مثل ذلك فرجع إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال له، عليه السلام: تركتهن أجمع.
ومن مُلح الكذب قيل: إنه كان بين يحيى بن خالد البرمكي وبين عبد الله بن مالك الخزاعي عداوة وتحاسد وكان كل واحد منهما ينتظر لصاحبه الدوائر، فلما ولي عبد الله بن مالك أذربيجان وأرمينية ضاق برجل من الدهاقين بالعراق الأمر وتعذرت عليه المطالب فحمل نفسه على أن افتعل على لسان يحيى بن خالد إلى عبد الله بن مالك بالوصاة به وأكد بمعاونته كل التأكيد، ولم يعلم ما بينهما من التباعد، فشخص من مدينة السلام إلى أذربيجان وصار إلى باب عبد الله بن مالك بالكتاب، فأوصله الحاجب، فقال له عبد الله: أدخل صاحب هذا الكتاب. فأدخله. فقال له عبد الله: إن كتابك هذا مفتعل ولكنك قد تجشمت هذه الشقة البعيدة ولسنا نخيبك. فقال الرجل: أما كتابي فليس بمفتعل وإن كنت إنما تقصده بهذه التهمة لتصرفه فالله جل وعز حسبي وعليه أتوكل. فقال عبد الله: أفترى أن تُحبس في دار وتزاح علتك إلى أن أكتب وأستطلع الرأي وأعرف نبأ هذا الكتاب فإن كان مزوراً عاقبتك وإن كان صحيحاً خيرتك بين الصلات والولايات فأيها اخترت سوغتكه؟ قال: نعم. فأمر عبد الله بحبسه وإزاحة علته وكتب إلى وكيله بالعراق: إن رجلاً يسمى فلان بن فلان أورد عليّ كتاباً من أبي عليّ يحيى بن خالد البرمكي فتعرّف لي أمر هذا الكتاب واكتب إلي بالحال فيه.
فصار الوكيل بكتاب عبد الله إلى يحيى بن خالد فقرأه عليه، فدعا بالدواة وكتب إليه بخطه: فلان من أخص من يليني وأوجبهم حقاً وقد أخبرني صاحبك بشكك في أمره فأزل، جعلت فداك، الشك وليكن صرفه إلي معجلاً بما يشبهك.
فلما خرج الوكيل قال يحيى لأصحابه: ما تقولون في رجل افتعل عليّ كتاباً إلى عبد الله بن مالك وصل به من مدينة السلام إلى أذربيجان؟ فقالوا جميعاً: نرى أن تفضحه وتكشف ستره وتعلن أمره ليرتدع به غيره ويصير نكالاً وأحدوثة للعالمين. قال: لا والله، وهذا رأيكم؟ قالوا: نعم. فقال: قبح الله هذا من رأي فما أقله وأنذله! ويحكم هذا رجل ضاق به الرزق فأمّل فيّ خيراً ووثق بي وشخص إلى أذربيجان مع بعد شقتها وصعوبة طريقها أتشيرون عليّ أن أحرمه ما أمّله في حتى يسيء ظنه بي وقد عرفتم قدر عبد الله وحاله عند أمير المؤمنين وأني لم أكن أحتال لهذه المنزلة إلا بالخطير من المال، أفتريدون أن أردّ الأمر بيني وبينه بعد الألفة الواقعة إلى الحشمة؟ هذا والله النكد طول الأبد وغاية الضعف ونهاية أسباب الانتكاس! ثم أخبرهم بما كتب به إلى عبد الله فتعجبوا من كرمه واحتماله الكذب.
وورد الكتاب بخطه على عبد الله فدعا بالرجل وقد سقط في يده لاعتراض سوء الظن بقلبه، فلما دخل عليه قال. هذا كتاب أخي قد ورد عليّ بصحة أمرك وسألني تعجيل صرفك إليه. فدعا له بمائتي ألف درهم وبما يتبعها من الدواب والبغال والجواري والغلمان والخلع وسائر الآلة ثم أصدره. فلما حضر باب يحيى بن خالد أدخل ذلك أجمع إليه وعرضه عليه، فأمر له يحيى بمثل ذلك وأثبته في خاصته.