إلى الله فيما نابنا الشكوى ... في يده كشف الضرورة والبلوى
خرجنا من الدنيا ونحن من اهلها ... فلسنا من الأحياء فيها ولا الموتى
إذا دخل السجّان يوماً لحاجةٍ ... عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا
ونفرح بالرؤيا فجلّ حديثنا ... إذا نحن أصبحنا الحديث عن الرؤيا
فإن حسنت كانت بطيّا مجيئها ... وإن قبحت لم تنتظر وأتت عجلى
[محاسن بر الآباء]
حكي عن ميمون بن مهران أنه قال: كنت عند عمر بن عبد العزيز فوجدته يكتب إلى ابنه عبد الملك: أما بعد فإن أحق من وعى عني وفهم قولي أنت، وإن الله، وله الحمد، قد أحسن إلينا في لطيف أمرنا وجليله، وعلى الله جل وعز تمام النعمة، فاذكر يا بني فضل الله عليك وعلى أبيك فإنك إن استطعت أن تصدق ذلك كله بعمل تعمله وصلاة أو صوم أو صدقة قبل ذلك منك، وإياك والعزة والعظمة والكبرياء فإنه من عمل الشيطان وهو عدوّ مضلّ مبين، وإن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، إن ربي لغفور رحيم. واعلم أن الشباب إلا ما وقى الله ودفع عونٌ على أمور كثيرة من السوء، وفيه لعمري معونة كثيرة على الخير لمن رزقه الله، فاحذر شبابك وإياك أن تعلم في قلبك زهواً أو كبراً فإنه ما لم يكن من ذلك كان خيراً، واحفظ لسانك ونفسك حفظاً ترجو فيه رحمة الله جل وعز ومغفرته، واذكر صغر أمرك وحقارة شأنك ولا تبغ في ما أعجبك من نفسك وفيما عسيت أن تفرط فيه مما ليس معه غير الفكرة في أمرك وأمره، وليس كتابي هذا لأن يكون بلغني عنك إلا خيراً، غير أنه قد بلغني عنك شيء من بعض إعجابك بنفسك، ولو بلغني أن ذلك خرج عنك إلى أمر كرهته لبلغك عني أمر يشتد عليك كراهته وعرّفت مع ذلك أن الشباب والحرص والنعمة يحمل ذلك كله على أمر شديد إلا ما وقى الله ودفع، فكن يا بنيّ على حذر، فإن الشيطان قلّ ما يصيب فرصته بمن احترس منه بدعاء الله جل اسمه والتواضع له، وأكثر تحريك لسانك في ليلك ونهارك بذكر الله فإن أحسن ما وصلت به حديثاً حسناً ذكر الله جل اسمه، وأحسن ما قطعت به حديثاً سيئاً ذكر الله تبارك وتعالى، وأعن على نفسك بخير. نسأل الله لنا ولك حسن التوفيق والسلام.
قال ميمون: ثم قال لي عمر: إن ابني عبد الملك قد زين في عيني وأنا متهم لنفسي فيه وأخاف أن يكون هواي فيه قد غلب على علمي به وأدركني ما يدرك الوالد من الإشفاق على ولده فأته واسبره ثم ائتني بعلمه ثم انظر هل ترى منه ما يشاكل النخوة فإنه غلام حدث ولا آمن عليه الشيطان.
قال ميمون: فخرجت إلى عبد الملك حتى قدمت عليه فاستأذنت ودخلت، فإذا غلام ابن ست عشرة سنة جالس على حشية بيضاء أحسن الناس تواضعاً وإذا مرافق بيض وبساط شعر. فرحب بي ثم قال: قد سمعت أبي يذكر منك ما أنت أهله وإني أرجو أن ينفع الله بك وقد حسبت أن يكون قد غرّني من نفسي حسن رأي والدي فيّ وما بلغت من الفضل كل ما يذكر، وقد حذرت أن يكون الهوى قد غلبه على علمه فأكون أحد آفاته. قال ميمون: فعجبت من اتفاقهما فقلت له: أعلمني من أين معيشتك؟ قال: من عطاي ومن غلة زراعةٍ اشتريت عن ظهر يدٍ ممن ورثها عن أبيه فوهبها لي فأغناني بها عن فيء المسلمين. قال: فقلت: فما طعامك؟ فقال: ليلة لحم وليلة عدس وزيت وليلة خل وزيت وفي هذا بلاغ. قال فقلت له: أفما تعجبك نفسك؟ فقال: قد كان فيّ بعض ما كان فلما وعظني أبي في كتابه بصّرني نفسي وما صغّر من شأني وحقّر من قدري فنفعني الله جل وعز بذلك فجزاه الله من والدٍ خيراً. فقعدت ساعة أحدثه وأتسمع من منطقه فلم أر فتىً كان أجمل وجهاً ولا أكمل عقلاً ولا أحسن أدباً على صغر سنه وقلة تجربته منه.