فوقف عليه رجل من أصحاب خالد فضرب عنقه وإذا رأسه في الجفنة التي كان يشرب منها، ولذلك قيل:
إن البلاء موكل بالمنطق
وحدثنا الحسين بن الضحاك قال: شهدت الواثق وكان قاعداً في مجلس كان أول مجلس قعده فكان أول ما تغنى من الغناء في ذلك المجلس صوت إبراهيم بن المهدي فغنت به شارية جارية إبراهيم:
ما درى الحاملون يوم استقلوا ... نعشةً للثواء أم للقاء
فلتقل فيك باكياتٌ كما شئ ... ن صباحاً وعند كل مساء
قال: فبكى والله وبكينا حتى شغلنا البكاء عن جميع ما كنا فيه، ثم اندفع بعض المغنين فغنى:
ودع هريرة إن الركب مرتحل ... وهل تطيق وداعاً أيها الرجل
قال: فازداد والله في البكاء، ثم قال: أسمعت كاليوم قط تعزية بأب ونعي نفس؟ ثم ارفضّ ذلك المجلس.
وحدثنا ابن المكي عن أبيه قال: قال محمد الأمين في آخر أيامه: يا مكي والله أحب أن أقعد يوماً قبل أن يحال بيننا وبين ما نريد. فقلت: يا أمير المؤمنين افعل ذلك، فقال: اغد عليّ في غد. قال: فانصرفت وغدا عليّ رسوله في السحر فجئت إليه وهو في صحن داره وعليه جبة وشي مذهبة تأتلق وعمامة مثلها ما رأيت لأحد قط مثل ذلك وتحته كرسي من ذهب مرصّع بالجوهر.
فدعا بكرسي فجلست عليه عن يساره. ثم قال لخادم على رأسه: ادع لي فلانة وفلانة، حتى عدّ أربع جوار ما منهن جارية إلا وأنا أعرف حذقها وجودة غنائها. فخرجن وجلسن عن يمينه. ثم قال: يا غلام عليّ برطلٍ، فأتي برطل وقدح بلّور مكلل بالجوهر. فالتفت إلى التي تليه فقال لها: غني، فضربت ضرباً حسناً وتغنت بشعر الوليد بن عقبة بن أبي معيط:
هم قتلوه كي يكونوا مكانه ... كما قتلت كسرى بليل مرازبه
بني هاشمٍ ردوا سلاح أخيكم ... ولا تنهبوه لا تحلّ مناهبه
قال: فرمى بالقدح في وسط الدار ثم قال: لعنك الله! ما هذا؟ قالت: لا والله يا سيدي ما جاء على لساني غير هذا. ثم التفت إلى الغلام فقال: اسقني. فأتاه بقدح مثل الأول. وقال للأخرى: غني. فغنت ما قيل في كليب وائل:
كليب لعمري كان أكثر ناصراً ... وأيسر ذنباً منك ضُرّج بالدم
فرمى بالقدح في صحن الدار وكسره ثم قال: يا غلام عليّ برطل. وقال للثالثة: غني، فغنت:
أتقتل عمراً لا أبا لك شارداً ... وتزعم بعد القتل أنك هارب
فلو كنت بالأقطار ما فتّ ضربتي ... وكيف تفوت الحين والدم طالب
قال: فرماها بالقدح وقال: يا غلام عليّ برطل. وقال للرابعة: غني. فغنت:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيسٌ ولم يسمر بمكة سامر
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والجدود العوائر
قال: فالتفت إلي وقال: قد سمعت هذا أمر يريده الله جل وعز. قال: فما مضت أيام حتى رأيت رأسه بين شرفتين من شرف قصره.
[محاسن ترك التطير]
روي عن عكرمة قال: كنا جلوساً عند ابن العباس وابن عمر فمر طائر يصيح، فقال رجل من القوم: خير! فقال ابن العباس: لا خير ولا شر، وأنشد في مثله:
ما فرق الأحباب بع ... د الله إلا الإبل
والناس يلحون غرا ... ب البين لما جهلوا
وما على ظهر غرا ... ب البين تطوى الرحل
ولا إذا صاح غرا ... بٌ في الديار احتملوا
وما غراب البين إ ... لا ناقةٌ أو جمل
ولآخر:
أترحل عمن أنت صبٌّ بمثله ... وتلحى غراب البين إنك ذو ظلم
أقم فغراب البين غير مفرّقٍ ... ولا نازل إلا على أفضل الحكم
ولآخر:
غلط الذين رأيتهم بجهالةٍ ... يلحون كلهم غراباً ينعق
ما الذنب إلا للجمال فإنها ... مما يشتِّت جمعهم ويفرق
إن الغراب بيمنه يدني النوى ... وتشتت الشمل الجميع الأينق
محاسن المواعظ