قيل: ولقي عمرو بن العاص الحسن بن علي، رحمه الله، في الطواف فقال: يا حسن أزعمت أن الدين لا يقوم إلا بك وبأبيك؟ فقد رأيت الله جل وعز أقامه بمعاوية فجعله راسياً بعد ميله وبيّناً بعد خفائه. أفرضي الله قتل عثمان أم من الحق أن تدور بالبيت كما يدور الجمل بالطحين؟ عليك ثياب كغِرْقىء البيض وأنت قاتل عثمان، والله إنه لألمّ للشعث وأسهل للوعث أن يوردك معاوية حياض أبيك. فقال الحسن، عليه السلام: إن لأهل النار علامات يُعرفون بها وهي الإلحاد لأولياء الله والموالاة لأعداء الله. والله إنك لتعلم أن علياً، رضي الله عنه، لم يتريّب في الأمر ولم يشكّ في الله طرفة عينٍ. وايم الله لتنتهينّ يا ابن أم عمرو أو لأقرعنّ جبينك بكلام تبقى سمته عليك ما حييت! فإياك والإبراز عليّ فإني من قد عرفت لست بضعيف الغمزة ولا بهشّ المشاشة ولا بمريء المأكلة، وإني من قريش كأوسط القلادة، يُعرف حسبي ولا أدّعي لغير أبي، وقد تحاكمت فيك رجال قريش فغلب عليك ألأمهم نسباً وأظهرهم لعنة، فإياك عني فإنك رجس، وإنما نحن بيت الطهارة، أذهب الله عنّا الرجس وطهرنا تطهيراً.
قيل: واجتمع الحسن بن علي وعمرو بن العاص فقال الحسن: قد علمت قريش بأسرها أني منها في عزّ أرومتها لم أُطبع على ضعف ولم أُعكس على خسف، أُعرف بشبهي وأدّعي لأبي. فقال عمرو: قد علمت قريش أنك من أقلها عقلاً وأكثرها جهلاً، وأنّ فيك خصالاً لو لم يكن فيك إلا واحدة منهنّ لشملك خزيها كما اشتمل البياض الحالك، لعمر الله لتنتهينّ عما أراك تصنع أو لأكبسن لك حافة كجلد العائط أرميك من خللها بأحرّ من وقع الأثافي أعرك منها أديمك عرك السلعة، فإنك طالما ركبت صعب المنحدر ونزلت في عراض الوعر التماساً للفرقة وإرصاداً للفتنة ولن يزيدك الله فيها إلا فظاعة. فقال الحسن، عليه السلام: أما والله لو كنت تسمو بحسبك وتعمل برأيك ما سلكت فجّ قصدٍ ولا حللت رابية مجدٍ. وايم الله لو أطاعني معاوية لجعلك بمنزلة العدو الكاشح، فإنه طالما طويت على هذا كشحك وأخفيته في صدرك وطمح بك الرجاء إلى الغاية القصوى التي لا يورق بها غصنك ولا يخضرّ لها مرعاك. أما والله ليوشكنّ يا ابن العاص أن تقع بين لحيي ضرغام من قريش قويّ متمنّع فروسٍ ذي لبد يضغطك ضغط الرحى للحب لا ينجيك منه الرّوَغان إذا التقت حلقتا البطان.
[محاسن كلام عبد الله بن العباس]
[رضي الله عنه]
أبو المنذر عن أبيه عن الشعبي عن ابن عباس أنه دخل المسجد وقد سار الحسين بن علي، رضي الله عنه، إلى العراق فإذا هو بابن الزبير في جماعة من قريش قد استعلاهم بالكلام، فجاء ابن عباس حتى ضرب بيده بين عضدي ابن الزبير وقال: أصبحت والله كما قال الأول:
يا لك من حمَّرةٍ بمعمر ... خلا لك الجو فبيضي واصفري
ونقّري ما شئت أن تنقّري ... قد رُفع الفخُّ فماذا تحذري
خلت الحجاز من الحسين بن علي وأقبلت تهدر في جوانبها. فغضب ابن الزبير وقال: والله إنك لترى أنك أحق بهذا الأمر من غيرك. فقال ابن عباس: إنما يرى من كان في حال شكّ وأنا من ذاك على يقين. فقال: وبأي شيء تحقّق عندك أنك أحقّ بهذا الأمر مني؟ قال ابن عباس: لأنا أحقّ ممّن يدلّ بحقّه، وبأي شيء تحقق عندك أنك أحق بها من سائر العرب إلا بنا؟ فقال ابن الزبير: تحقق عندي أني أحقّ بها منكم لشرفي عليكم قديماً وحديثاً. فقال: أنت أشرف أم من قد شرفت به؟ فقال: إن من شرفت به زادني شرفاً إلى شرف قد كان لي قديماً وحديثاً. قال: أفمنّي الزيادة أم منك؟ قال: بل منك. فتبسم ابن عباس، فقال: يا ابن عباس دعني من لسانك هذا الذي تقلّبه كيف شئت، والله لا تحبّوننا يا بني هاشم أبداً. قال ابن عباس: صدقت، نحن أهل بيت مع الله عز وجل لا نحب من أبغضه الله تعالى. فقال: يا ابن عباس ما ينبغي لك أن تصفح عن كلمة واحدة؟ قال: إنما أصفح عمّن أقرّ وأما عمّن هرّ فلا، والفضل لأهل الفضل. قال ابن الزبير: فأين الفضل؟ قال: عندنا أهل البيت لا تصرفه عن أهله فتظلم ولا تضعه في غير أهله فتندم. قال ابن الزبير: أفلست من أهله؟ قال: بلى إن نبذت الحسد ولزمت الجدد. وانقضى حديثهما، وقام القوم فتفرقوا.