وحكى جعفر ابن أخت أبي العباس قال: دخلت على المأمون ويداه معلقتان من شيء رطب أكله قد مسته النار وهو يصيح: يا غلام. وكلهم يسمع صوته فما منهم أحد يجيبه. فخرجت إليهم وأنا أفور غضباً فإذا بعضهم يلعب بالشطرنج وبعضهم بالكعاب وبعضهم يهارش الديوك. فقلت: يا بني الفواعل أما تسمعون أمير المؤمنين يدعوكم؟ فقال واحد: حتى أقيس هذا الكعب. وقال الآخر: قد بقيت على ضربه. وقال آخر: امض فإني أتبعك. فما علمت ما أخاطبهم به من الحنق عليهم، فإذا المأمون قد صوّت بي وأنا أقذف أمهاتهم. فأتيته وهو يضحك. فقال: ارفق بهم فإنهم بشر مثلك. فقلت: تقول هذا وأنت معلّق اليد؟ فقال: وهذا معاشرتك خدمك؟ فقلت: والله لو فعل بي هذا ولدي من دون خدمي لقتلته! قال: هذه أخلاق السوقة وأخلاقنا أخلاق الملوك. فقلت: لا والله ما هذه أخلاق الملوك ولا أخلاق الأنبياء عليهم السلام.
وقال ثمامة بن أشرس: والله إني لفي مجلس المأمون وعنده عمرو بن مسعدة وأبو عباد والعباسي ومحمد بن أبي محمد اليزيدي إذ دخل عليّ بن صالح فقال: محمد بن الفضل بن سليمان الطوسي بالباب. قال: يدخل. فدخل وسلم وفي يده كتاب فأشار به إلى المأمون. فقال المأمون: اذكر ما فيه. فقال: يا أمير المؤمنين جعلني الله فداك سر من أسرار الخليفة لا يحتمل إذاعته! قال: وإن كان ذلك فاذكره. قال: يا أمير المؤمنين لست فاعلاً! قال: يا هذا ما بحضرتنا من نكتمه أسرارنا فأبد ما عندك. فأعاد محمد بن الفضل مثل قوله الأول والثاني. فقال المأمون إني لأعلم ما في كتابك! قال: هذه كهانة! قال: فنزل المأمون عن فرشه ورفع ستراً كان في ظهر مجلسه ودخل وأشار إلينا وقال: لا تبرحوا. فجاء علي بن صالح فأخذ بيد الطوسي وقال: قم فأنت أشأم من البسوس. فأقعده خلف حائط بقرب المجلس لكي إن خرج لا يراه وإن دعاه أحضره. قال: فجعل كل واحد منا يرجف بجنسٍ من المكروه وكلنا خائفون عليه، فواحد يقول: يأخذ الساعة أمواله وينفيه. وآخر يقول: يضرب عنقه. قال: فأبطأ علينا المأمون ثم خرج ووجهه مسفر ضاحكة سنّه، فقال: سمعتم ما كلمني به هذا الخائن، إنه والله لما بلغ مني كلامه لم أجد بدّاً ولا دواء إلا ملاعبة الجواري والنساء ليزول عني ما قد تداخلني، وقد أسمعني ما أكره بضع عشرة مرة واحتملته.
[مساوئ من سخط عليه وحبس]
في الحديث المرفوع قال: شكا يوسف، عليه السلام، إلى ربه جل وعز طول الحبس وأوحى الله تبارك وتعالى إليه: أنت حبست نفسك حيث قلت رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه، ولو قلت العافية أحب إلي عوفيت.
قال: وكتب يوسف على باب السجن: هذه منازل البلوى وقبور الأحياء وشماتة الأعداء وتجربة الأصدقاء. ودعا لأهل الحبس بدعوتين هما معروفتان فيهم إلى اليوم: اللهم اعطف عليهم قلوب الأخيار ولا تعم عليهم الأخبار. فكل الناس يرحمونهم والأخبار من كل جهة عندهم.
قال: ولما خرج جعفر الأحمري من الحبس وأُدخل على المهدي في الحديد قال له: يا فاسق أزلّك الشيطان وأغواك، وفي غمرة الجهل أرداك، وعن الهدى بعد البصيرة أعماك، حتى تركت الطريقة ودخلت فيما لا أصل له ولا حقيقة، كيف رأيت الله كشف أمرك وأعلن فسقك وأظهر ما كنت تخفي من سقم سريرتك وخبث نيتك فأوردك حوض منيتك وذلك بما قدمت يداك وما الله بظلام للعبيد! قال جعفر: لا والذي لم يزل بعباده خبيراً، وبعث محمداً، عليه وعلى آله السلام، بالحق بشيراً، طهر أهله من دنس الريب تطهيراً، ووقفني بيد يديك أسيرا، وجعلك علينا سلطاناً أميرا، ما خنت الإسلام نقيرا، ولا أضللت الهدى منذ كنت بصيرا، فلا تقدم عليّ بالشبهة تقديرا، بسعي ساعٍ سوف يجزي بسعيه سعيرا.
فقال المهدي: ما يغني عنك وسواسك، فما تهذي من أم رأسك، قد تناهت إليّ أخبارك، وأدّاها من كان يقفو آثارك، ويعرف أسرارك، ومن بايعك من أعوانك الذين وازروك على ضلالك، فأقلل، لا أم لك، تشجعك، فقد حلّ قضاؤك، وحان حصادك.
فقال جعفر: إن تقتلني تقتل مني علماً فلا تجعل لي على ظهرك وزراً فأصير لك يوم القيامة خصما، وأنت تعلم أنك لا تجيء بقتلي عدلاً ولاتنال به فضلاً، فاتق الذي خلقك وأمر عباده ملكك وبالعدل فيهم أمرك، ولا تحكم عليّ بحكم عن الهدى مائل، فإنك للدنيا مفارق وعنها راحل، وكلّ ما أنت فيه فمضمحل زائل.