والله لكأني أنظر إلى شؤبوبها قد همع وإلى عارضها قد لمع وكأني بالوعيد قد أورى ناراً فأقلع عن براجم بلا معاصم ورؤوس بلا غلاصم، مهلاً مهلاً بني هاشم فبي سهّل الله الوعر وصفّى الكدر وألقت الأمور أزمّتها.
نذار من حلول داهية خبوط باليد لبوط بالرجل. فقال عبد الملك: أفذّاً أتكلم أم توأماً؟ قال: بل توأماً. فقال: يا أمير المؤمنين اتق الله فيما ولاك، وراقبه فيما استرعاك، ولا تجعل الشكر بموضع الكفر، ولا الثواب بمحلّ العقاب، والله الله في رحمك أن تقطعها بعد أن وصلتها بظنّ يؤثم ثم تقول باغٍ ينهس اللحم وولغ في الدم، فقد جمعت القلوب على محبتك وذلّلت الرجال لطاعتك وكنت كما قال أخو كلاب لبيد بن ربيعة:
ومقامٍ ضيق فرّجته ... بلساني وبياني وجدل
لو يقوم الفيل أو فيّاله ... زلّ عن مثلي مقامي وزجل
فوثب الرشيد من مجلسه واعتنقه وجعل يقبل ما بين عينيه ويسترجع ويعتذر ثم خلع عليه حلل الرضى وتنفس الصعداء وقال: والله لقد دعوته وإني لأرى موضع السيف من قفاه وها أنا ذا نادم على ما كان مني، والله جل وعز يتجاوز بقدرته عن ذلك.
قال: وظفر المأمون برجل كان يطلبه، فلما دخل عليه قال: يا عدو الله أنت الذي تفسد في الأرض بغير حق، يا غلام خذه إليك واسقه كأس الموت.
فقال: يا أمير المؤمنين إن رأيت أن تستبقيني حتى أؤيدك بمال؟ قال: ليس إلى ذلك سبيل. قال: يا أمير المؤمنين فدعني أصلّ ركعتين أختم بهما عملي. قال: ليس إلى ذلك سبيل. قال: فدعني أنشد أبياتاً. قال: هات. فقال:
زعموا بأن الصقر صادف مرةً ... عصفور برٍّ ساقه المقدور
فتكلم العصفور تحت جناحه ... والصقر منقضّ عليه يطير
ما كنت خاميزاً لمثلك لقمةً ... ولئن شويت فإنني لحقير
فتهاون الصقر المدلّ بصيده ... كرماً وأفلت ذلك العصفور
فقال المأمون: أحسنت! ما جرى ذلك على لسانك إلا لبقية بقيت من عمرك. فأطلقه وخلع عليه ووصله.
قال: وقال عبد الله صاحب المأمون: دخلت على المأمون فإذا نطعٌ مبسوط ورجلٌ فوقه على رأسه رجل مسلول سيفه. فلما نظر إليّ المأمون قال: يا عبد الله شأنك والرجل. فحسرت عن ذراعي وقمت فوق رأسه واخترطت سيفي، فسلّط على المأمون النعاس فجعل يخفق برأسه ويقول: أستخير الله. فلما كان عند المساء قال لي: شأنك والرجل احفظه. فطرحت حمائل سيفي في عنقه وأردفته خلفي وذهبت به إلى منزلي ثم عدت اليوم الثاني إلى المأمون ففعل كفعله أمس. فلما كان اليوم الثالث قال لي المأمون: خلّ عن الرجل واعطه عشرة آلاف درهم. فأردفته خلفي ولم أجعل حمائل السيف في عنقه. فقال لي: ما لك لم تلق حمائل السيف في عنقي؟ قلت: إنه قد عُفي عنك. قال: فخلّ عني إذاً. قلت: أمرني أن أعطيك عشرة آلاف درهم. قال: لا حاجة لي فيها، خلّ عني. قال: إذا أُمرنا بأمرٍ انتهينا إليه. ثم قلت له: كنت تهمهم في قفاي إذا أنا أردفتك بشيء فما كنت تقول؟ قال: كنت أقول: اللهم أنت كل يوم في شأن لا يشغلك شأن عن شأن فاجعلني من شأنك حتى تنقل ما في قلب هذا الرجل من الغضب إلى الرضى ومن الغلظة إلى اللين والرقة يا أرحم الراحمين.
وعن إبراهيم بن المهدي أنه بينا هو في مجلس المأمون إذ تكلم بكلام أسقط فيه وكان كلامه يحتمل أمرين. فقام وعلم أنه قد أخطأ فقال: إن رأى سيدي أن يأذن لي في الكلام. قال: قل. قال: نساؤه طوالق وماله صدقة وعبيده أحرار وكل نذر وضعه الله جل وعز بين عباده ففي عنقه دون الخلق حتى يفي به إن كان ما تكلم به إلا لجهة كذا وكذا وتأويل كذا وكذا. قال: فتبسم المأمون وقال: اجلس، إني والله ما ذهبت حيث ظننت وما كنت لأعفو عن الكل وآخذ بالجزء، ولولا أني في مجلس يرقّ عن الإغضاء على أكثر الحالات ثم بلغ مني رجل ما يبلغ من عبده ما وجد عندي إلا الصفح والعفو، وما أحسبني أؤجر عليه إذ كان لا يؤثر فيّ وإنما الأجر بقسط الألم وميزان المضض.
وعن بعضهم أن والياً أُتي برجل قد جنى جناية فأمر بضربه، فلما مُدّ قال: بحق رأس أمك إلا عفوت عني! فأبى. فقال: بحق عينيها! قال: اضرب. قال: بحق خدّيها ونحرها! قال: اضرب. قال: بحق ثدييها! قال: اضرب. قال: بحق سرّتها! قال: دعوه لا ينحدر إلى أسفل.
مساوئ تعدي السلطان