قال ميمون: فلما كان آخر ذلك أتاه غلام فقال: أصلحك الله قد فرغنا. قال: فسكت. فقلت: ما هذا الذي فرغ منه؟ قال: الحمّام أخلاه لي. قال فقلت: لقد كنت وقعت مني كل موقع حتى سمعت هذا. قال: فاسترجع وذعر وقال: وما ذاك يا عم، يرحمك الله؟ قلت: الحمّام لك؟ قال: لا. قلت: فما دعاك إلى أن تطرد عنه غاشيته كأنك تريد بذلك الكبر فتكسر على صاحب الحمام غلته ويرجع من أتاه خائباً؟ قال: أما صاحب الحمام فإني أُرضيه وأعطيه غلة يومه. قال قلت: هذه نفقة سرف خالطها الكبر، وما يمنعك أن تدخل الحمام مع الناس وإنما أنت كأحدهم؟ قال: يمنعني من ذاك أن أرى عورة مسلم ورعاع من الناس يدخلون بغير أزر فأكره رؤية عوراتهم وأكره أن أجبرهم على أزر فيضعون ذلك مني على حد هذا السلطان الذي خلّصنا الله منه كفافاً، فعظني رحمك الله عظة أنتفع بها واجعل لي مخرجاً من هذا الأمر. فقلت له: ادخله ليلاً فإذا رجع الناس إلى رحالهم خلا لك الحمام. قال: لا جرم لا أدخله نهاراً أبداً ولولا شدة برد بلادنا هذه ما دخلته أبداً، فأقسمت عليك لتطوينّ هذا الخبر عن أبي فإني أكره أن يظل عليّ ساخطاً ولعل الأجل يحول دون الرضى منه.
قال: فأردت أن أسبر عقله فقلت: إن سألني هل رأيت منه شيئاً تأمرني أن أكذبه؟ قال: لا معاذ الله ولكن قل رأيت شيئاً ففطمته عنه وسارع إلى ما أردت من الرجوع، فإنه لا يسألك عن التفسير لأن الله جل وعز قد أعاذه من بحث ما ستر. قال ميمون: فلم أر والداً قط ولا ولداً قط، رحمة الله وبركاته عليهم، مثلهما.
وذكروا أن ضرار بن عمرو الضبّي ولد له ثلاثة عشر ابناً كلهم بلغ ورأس فاحتمل ذات يوم. فلما رأى بنيه رجالاً معهم أهاليهم وأولادهم سره ما رأى من هيأتهم ثم ذكر نفسه وعلم أنهم لم يبلغوا ذلك حتى أسنّ هو ورقّ وضعف فقال: من سره بنوه ساءته نفسه. فذهبت مثلاً.
قيل: ودخل الأمين على أبيه الرشيد وقد عرضت له وصيفة جميلة فلم يزل محمد ينظر إليها وفطن له أبوه فقال: يا محمد ما ترى في هذه الوصيفة؟ قال: ما أرى بأساً. قال: فهل لك فيها؟ قال: أمير المؤمنين أحق بها مني. قال: فقد آثرك على نفسه فخذها. فأخذها. فقال الرشيد:
ولي ولدٌ لم أعصه مذ ولدته ... ولا شكّ في بري به مذ ترعرعا
تخيرته للملك قبل فطامه ... وأقطعته الدنيا فطيماً ومُرضعا
فلا الملك يخلو باعه من محمدٍ ... ولا هو منه بل هما هكذا معا
فنهض محمد ومعه الجارية فأتبعه طرفه فلما غاب قال:
وإنما أودلانا بيننا ... أكبادنا تمشي على الأرض
وحكي عن بعض الأعراب أنه كان يرقّص ولده ويقول:
كأنما ريح الولد ... ريح الخزامى بالبلد
أهكذا كل ولد ... أم لم يلد قبلي أحد
[محاسن تأديب الولد]
قيل: نظر ابن عباس، رحمه الله، إلى بعض ولده نائماً بالغداة فركله برجله ثم قال: قم لا أنام الله عينك! أتنام في وقت يقسم الله جل وعز فيه الأرزاق؟ أوما علمت أنها النومة التي قالت العرب فيها مكسلة ومانعة للحوائج؟ وقد قيل: النوم على ثلاثة أوجه: خُرق وحُمق وخُلق، فأما الخرق فنوم الضحى شغل عن أمر الدنيا والآخرة، والحمق النوم بين العصر والمغرب فإنه لا ينامها إلا أحمق أو عليل أو سكران، وأما الخلق فنوم الهاجرة الذي أمر به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فإنه قال: قيلوا فإن الشيطان لا يقيل. وقيل: إن نوم الغداة يمحق الرزق ويورث الصفُّار والكسل والبخر.
وذكروا عن عبد الملك بن مروان أنه مات بعض ولده فجاءه الوليد ابنه وهو صغير فعزّاه فقال: يا بني لمصيبتي فيك أعظم وأفدح من مصيبتي بأخيك، ومتى رأيت ابناً عزى أباه! فقال: يا أمير المؤمنين أمي أمرتني بذلك. قال: يا بني أهون عليّ وهو لعمري من مشورة النساء.
[مساوئ جفاء الآباء]
قال: فقال رجل لابنه: يا ابن الزانية! فقال: الزانية لا ينكحها إلا زانٍ أو مشرك.
وقال آخر لابنه: يا ابن الزانية! قال: لا تفعل، لقد كنت أحفظ لأهلك من أبيك لأهله.
قال: وقال أعرابي لابنه:
وأمك قد روّيتها فشفيتها ... على حاجة مني وعينك تنظر
فأجابه:
وجدّي قد روّى عجوزاً فبلّها ... فما كنت ترعاه وما كنت تشكر