قال ثمامة صاحب الكلام: كان المأمون قد همّ بلعن معاوية وأن يكتب بذلك كتاباً في الطعن عليه، قال: ففثأه عن ذلك يحيى بن أكثم وقال: يا أمير المؤمنين العامة لا تحتمل هذا ولا سيما أهل خراسان ولا تأمن أن يكون لهم نفرةٌ ونبوةٌ لا تستقال ولا يُدرى ما تكون عاقبتها، والرأي أن تدع الناس على ما هم عليه ولا تظهر لهم أنك تميل إلى فرقة من الفرق فإن ذلك أصلح في السياسة وآمن في العاقبة وأجرى في التدبير، فركن إلى قوله، فلما دخلت عليه قال: يا ثمامة قد علمت ما كنا دبّرناه في أمر معاوية وقد عارضنا رأيٌ هو أصلح في تدبير المملكة وأبقى ذكراً في العامة، ثم أخبرني أن يحيى بن أكثم حذّره وأخبره بنفور العامة عن مثل هذا الرأي، فقلت: يا أمير المؤمنين والعامة عندك في هذا الموضع الذي وضعها فيه يحيى، والله لو بعثت إليها إنساناً على عاتقه سوادٌ ومعه عصاً لساق إليك منها عشرة آلاف! والله يا أمير المؤمنين ما رضي الله جل وعز أن سوّاها بالأنعام حتى جعلها أضل سبيلاً، فقال تبارك وتعالى:" أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً "، والله لقد مررت يا أمير المؤمنين منذ أيام في شارع الخلد وأنا أريد الدار فإذا إنسان قد بسط كساءه وألقى عليه أدوية وهو قائم ينادي: هذا الدواء للبياض في العين والغشاوة والظلمة وضعف البصر، وإن إحدى عينيه لمطموسة والأخرى مؤلَمة، وقد تألبوا عليه واحتفلوا إليه، فنزلت عن دابتي ودخلت بين تلك الجماعة فقلت: يا هذا أرى عينيك أحوج الأعين إلى العلاج وأنت تصف هذا الدواء وتخبر أنه شفاء! فما بالك يا هذا لا تستعمله؟ قال: أنا في هذا الموضع منذ عشرين سنة ما رأيت شيخاً قط أجهل منك ولا أحمق! قلت: وكيف ذاك؟ قال: يا جاهل أتدري أين اشتكت عيني؟ قلت: لا، قال: بمصر، فأقبل عليّ الجماعة فقالت: صدق والله أنت جاهل، وهمّوا بي، فقلت: والله ما علمت أن عينه اشتكت بمصر! فتخلصت منهم بهذه الحجة. قال: فضحك المأمون وقال: ما لقيت من الله جل ذكره من سوء الثناء وقبح الذكر أكثر، قلت: أجل.
وقيل: إنه كان رجل من المعتزلة وكان له جار يرى رأي الخوارج، وكان كثير الصلاة والصيام حسن العبادة، فقال المعتزلي لرجلين من أصحابه: مرّا بنا إلى هذا الرجل فنكلمه لعل الله جل وعز ينقذه من الهلكة بنا ويهديه من الضلالة، فأتوه وكلّموه فأصغى إلى كلامهم، فلما سكتوا انتعل وقام ومعه القوم حتى وقف على باب المسجد فرفع صوته بالقراءة واجتمع إليه الناس، وقعد الرجل وصاحباه، فقرأ ساعةً حتى أبكى الناس ثم وعظ فأحسن ثم ذكر الحجاج فقال: أحرق المصاحف وهدم الكعبة وفعل وفعل فالعنوه لعنه الله! فلعنه الناس ورفعوا أصواتهم، ثم قال: يا قوم وما علينا من ذنوب الحجاج ومن أن يغفر الله عز وجل له ولنا معه فإنا كلنا مذنبون، لقد كان الحجاج غيوراً على حرم المسلمين تاركاً للغدر ضابطاً للسبيل عفيفاً عن المال لم يتخذ ضيعةً ولم يكن له مال فما علينا إن نترحم عليه فإن الله عز وجل رحيم يحب الراحمين، ثم رفع يده ودعا بالمغفرة للحجاج ورفع القوم أيديهم وارتفعت الأصوات بالاستغفار ملياً، قال الرجل المعتزلي وهو يلاحظني، فلما فرغ وانصرف ضرب بيده إلى منكبي وقال: هل رأيت مثل هؤلاء القوم لعنوه واستغفروا له في ساعة واحدة، أتنهى عن دماء أمثال هؤلاء؟ والله لأجاهدنهم مع كل من أعانني عليهم.
[محاسن التيقظ]
قيل: كان أردشير من أشد خلق الله فحصاً وبحثاً عن سرائر خاصته وعامته وإذكاءً للعيون عليهم وعلى الرعية، وكان يقول: إنما سمي الملك راعياً ليفحص عن دفائن رعيته، ومتى غفل الملك عن تعرفه ذلك فليس له من رسم الراعي إلا اسمه ومن الملك إلا ذكره، ويقال: إنه كان يصبح فيعلم كل شيء جرى في دار مملكته خير أم شر ويمسي فيعلم كل شيء أصبحوا عليه، فكان متى شاء قال لأرفعهم وأوضعهم: كان عندك في هذه الليلة كيت وكيت، ثم يحدّثه بكل ما كان فيه إلى أن أصبح، وكان بعضهم يقول: يأتيه ملك من السماء فيخبره، وما كان ذلك إلا لتيقظه وكثرة تعهده لأمور رعيته.