للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قال وقال رجل لعبد الملك بن أبجر: أشتهي أن أمرض. فقال له: كل سمكاً مالحاً واشرب نبيذاً حلواً واقعد في الشمس واستمرض الله عز وجل فإن لم تمرض فأنت حمار.

[محاسن الندامة]

روي عن عائشة، رضي الله عنه، أنها دخلت على أم سلمة بعد رجوعها من وقعة الجمل وقد كانت أم سلمة حلفت أن لا تكلمها أبداً من أجل مسيرها إلى محاربة عليّ بن أبي طالب، فقالت عائشة: السلام عليك يا أم المؤمنين! فقالت: يا حائط ألم أنهك؟ ألم أقل لك؟ قالت عائشة: فإني أستغفر الله وأتوب إليه. كلميني يا أمر المؤمنين، قالت: يا حائط ألم أقل لك؟ ألم أنهك؟ فلم تكلمها حتى ماتت، وقامت عائشة وهي تبكي وتقول: وا أسفاه على ما فرط مني.

قيل: وسئلت عائشة، رضي الله عنه، عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، فقالت: وما عسيت أن أقول فيه وهو أحب الناس إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟ لقد رأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد جمع شملته على عليّ وفاطمة والحسن والحسين وقال: هؤلاء أهل بيتي اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. قيل لها: فكيف سرت إليه؟ قالت: أنا نادمة! وكان ذلك قدراً مقدوراً.

وعن جميع بن عمير قال: قلت لعائشة حدثيني عن علي، رضي الله عنه، فقالت: تسألني عن رجل سالت نفس رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في يده وولي غسله وتغميضه وإدخاله قبره، قلت: فما حملك على ما كان منك؟ فأرسلت خمارها على وجهها وبكت وقالت: أمرٌ كان قضي عليّ.

قال: وقال ابن المعافى لأبي مسلم صاحب الدولة: أيها الأمير لقد قمت بأمر لا يقصر بك ثوابه عن الجنة في إقامة دولة بني العباس، فقال: خوفي من النار والله أولى من الطمع في الجنة، إني أطفيت من أمية جمرة وألهبت من بني العباس نيراناً، فإن أفرح بالإطفاء فوا حزناً من الإلهاب! وحدّث أبو نملة عن أبيه قال: سمعت أبا مسلم بعرفات في الموقف يقول باكياً: اللهم إني تائب إليك مما لا أظن أن تغفره لي، فقلت: أيها الأمير أيعظم على الله عز وجل غفران ذنبٍ؟ فقال: إني نسجت ثوباً من الظلم لا يبلى ما دامت الدولة لبني العباس، فكم من صارخ وصارخة تلعنني عند تفاقم هذا الأمر، فكيف يغفر الله عز وجل لمن هذا الخلق خصماؤه؟ قيل: ولما سخط عليه المنصور ووكل به شهرام المروزي قال له يوماً: الويل لك من الخليفة المنصور! فقال: الويل لي من ربي، وأين يقع ويل ساعة من عذاب الأبد؟

[مساوئ الندامة]

قال: وإلى الكُسَعيّ يضرب المثل في الندامة وذلك أنه كان يرعى إبلاً له بوادٍ كثير العشب، فبينا هو كذلك إذ بصر بنبعة في صخرة فأعجبته، فقال: ينبغي أن تكون هذه قوساً، فجعل يتعهدها حتى إذا أدركت قطعها وجففها واتخذ منها قوساًن فأنشأ يقول:

يا رب وفقني لنحت قوسي ... فإنها من لذّتي لنفسي

وانفع بقوسي ولدي وعرسي ... أنحتها صفراء مثل الورس

صلباء ليست كقسيِّ النِّكس

ثم دهنها وخطمها بوتر ثم عمد إلى ما كان من برايتها فجعل منه خمسة أسهم فجعل يقلبها في كفه ويقول:

هن وربي أسهم حسانُ ... يلذّ للرامي بها البنان

كأنها قوّمها الميزان ... فأبشروا بالخصب يا صبيان

إن لم يعقني الشؤم والحرمان

ثم خرج حتى أتى موارد حمر الوحش فكمن فيها فمرّ قطيع منها فرمى عيراً فأمخطه السهم حتى جازه وأصاب الجبل فأورى ناراً فظن أنه أخطأ فقال:

أعوذ بالله العزيز الرحمان ... من نكد الجدّ معاً والحرمان

ما لي رأيت السهم بين الصّوّان ... يوري شراراً مثل لون العقيان

فأخلف اليوم رجاء الصبيان

ثم مكث على حاله فمر به قطيع آخر فرمى عيراً منها فأمخطه السهم فصنع صنيع الأول فقال:

لا بارك الله الرحمن في رمي القتر ... أعوذ بالرحمن من سوء القدر

أأمخط السهم لإرهاق الضرر ... أم ذاك من سوء احتيال ونظر

ثم مكث على حاله فمر به قطيع آخر فرمى عيراً منها فأمخطه السهم فقال:

ما بال سهمي يوقد الحباحبا ... قد كنت أرجو أن يكون صائبا

وأمكن العير وأبدى جانبا ... فصار رأيي فيه رأياً خائبا

ومكث مكانه فمر به قطيع آخر فرمى عيراً منها فأصرد السهم فصنع صنيع الأول فقال:

<<  <   >  >>