فلم يقبل الأمين ذلك للأمر المقدور والقضاء السابق وعجّل إلى خلع المأمون في عقد الأمر لابنه حتى كان ما كان. وليس يبلغ شيء في الملك والدولة خاصة مبلغ الرأي لأن الرأي لا يحتاج إلى السلاح والسلاح يحتاج أهله إلى الرأي وإلا كانت عدتهم عليهم ضرراً إذا لم يصيبوا في استعمالها وجه الرأي.
[مساوئ من يستشير]
قال بعض أهل العلم: لو لم يكن في المشورة إلا الاستحقار من صاحبها لك وظهور فقرك إليه لوجب اطّراح ما تفيده المشورة وإلقاء ما تكسبه الإنسان، وما استشرت أحداً قط إلا كبر عندي وتصاغرت له ودخلته العزة ودخلتني الذلة، فإياك والمشورة وإن ضاقت بك المذاهب واختلفت عليك المسالك وأداك الاستبهام إلى الخطإ الفادح، فإن صاحبها أبداً مستذل مستضعف، وعليك بالاستبداد فإن صاحبها أبداً جليل في العيون مهيب في الصدور، ولن تزال كذلك ما استغنت عن العقول، فإذا افتقرت إليها حقرتك العيون ورجفت بك أركانك وتضعضع شأنك وفسد تدبيرك واستحقرك الصغير واستخف بك الكبير وعُرفت بالحاجة إليهم، وقد قيل: نعم المستشار العلم ونعم الوزير العقل.
وممن اقتصر على رأيه دون المشاورة أبو جعفر المنصور، فإنه لما حدث من أمر إبراهيم ومحمد ابني عبد الله بن الحسن ما حدث أمسك المنصور عن المشاورة واستبدّ برأيه وأقبل على السهر والخلوة ولم يذكر أمرهما لأحد من أهله، وكان تحته مصلّى قد تفزّز لحمته وسداه وكان جلوسه ومبيته عليه فلم يغيره، وعليه جبّة خزّ دكناء قد درن جيبها فلم يغيّرها حتى ظفر، وكان يقول في تلك الحال: إياك والمشورة فإن عثرتها لا تستقال وزلتها لا تُستدرك، فكم قد رأيت من نصيح عاد نصحه غشاً! ومنهم الرشيد فإنه حُكي عنه أنه بعث ذات ليلة إلى جعفر بن يحيى: إني قد سهرت فوجّه إليّ بعض سمّارك. فوجه إليه بسمير له كوفيّ، فسامره ليلته، فلما أن رجع سأله جعفر عن خبره. فقال: سامرته ليلتي كلها فأنشدته فما رأيته استحلى إلا بيتين من شعر أنشدتهما إياه فإنه أولع بهما وما زال يأمرني بتكريرهما عليه حتى حفظهما. فقال جعفر: وما هما؟ قال:
ليت هنداً أنجزتنا ما تعد ... وشفت أنفسنا مما تجد
واستبدت مرةً واحدةً ... إنما العاجز من لا يستبد
فقال له جعفر: أهلكني والله وأهلكت نفسك! قال: وكيف ذاك؟ قال: إنه كان لا غنى به عني وعن مشورتي ولم يكرر البيتين إلا وقد عزم على ترك مشاورتي والاستبداد بالرأي. فقتله بعد حول. وقال الشاعر في مثله:
بديهته وفكرته سواءٌ ... إذا ما نابه الخطب الكبير
وأحزم ما يكون الدهر رأياً ... إذا عمي المشاور والمشير
وصدرٌ فيه للهمم اتساعٌ ... إذا ضاقت بما فيه الصدور
ومنهم الشعبي، فإنه ذكر أنه كان صديقاً لابن أبي مسلم كاتب الحجاج وأنه لما قدم به على الحجاج لعنه، فقال له: أشر عليّ. فقال: ما أدري بما أشير ولكن اعتذر بما قدرت عليه. وأشار عليه بذلك جميع أصحابه. قال الشعبي: فلما دخلت خالفت مشورتهم ورأيت والله غير الذي قالوا، فسلمت عليه بالإمرة ثم قلت: أصلح الله الأمير! إن الناس قد أمروني أن أعتذر بغير ما يعلم الله أنه الحق، وأيم الله لا أقول في مقامي هذا إلا الحق! قد جهدنا وحرّضنا فما كنا بالأقوياء الفجرة ولا بالأتقياء البررة، ولقد نصرك الله علينا وأظفرك بنا، فإن سطوت فبذنوبنا وإن عفوت فبحلمك والجحة لك علينا.
فقال الحجاج: أنت والله أحب إلينا قولاً ممن يدخل علينا وسيفه يقطر من دمائنا ويقول: والله ما فعلت وما شهدت، أنت آمن يا شعبي! فقلت: أيها الأمير اكتحلت والله بعدك بالسهر واستحلست الخوف وقطعت صالح الإخوان ولم أجد من الأمير خلقاً. فقال: صدقت فانصرف. فانصرفت.
[محاسن كتمان السر]
قال: كان المنصور يقول: الملوك تحتمل كل شيء من أصحابهم إلا ثلاثاً: إفشاء السر، والتعرض للحرم، والقدح في الملك. وكان يقول: سرك من دمك فانظر من تملكه. وكان يقول: سرك لا يطلع عليه غيرك. إن من أنفذ البصائر كتمان السر حتى يبرم المبروم.
وقيل لأبي مسلم صاحب الدولة: بأي شيء أدركت هذا الأمر؟ فقال: ارتديت بالكتمان واتزرت بالحزم وحالفت الصبر وساعدت المقادير فأدركت ظني وحزت حدّ بغيتي، وأنشد: