قال بعضهم: كثرة الأدب في غير طاعة الله قائدة الذنوب. وقال: ما أحدٌ زيد في عقله إلا انتقص من رزقه. وأنشد في ذلك:
ثنتان من أدوات العلم قد ثنتا ... عنان شأوي عما رمت من هممي
أما الدواة فأضنى حبها بدني ... وقلّم المال مني حرفة القلم
والعلم يعلم أني حين أندبه ... لدفع نائبةٍ خلوٌ من العصم
ولآخر، وقيل إنه للخليل بن أحمد:
ما ازددت في أدبي حرفاً أسرّ به ... إلا تبينت حرفاً تحته شوم
إن المقدم في حذقٍ بصنعته ... أنى توجه فيها فهو محروم
[مساوئ اللحن]
قال يونس بن حبيب النحوي: أول من أسس العربية وفتح بابها ونهج سبيلها أبو الأسود الدئلي واسمه ظالم بن عمرو. فقال له الحجاج: أتسمعني ألحن على المنبر؟ قال: كلا، الأمير أفصح العرب. قال: أقسمت عليك! قال: حرفاً واحداً تلحن فيه. فقال: وما هو؟ قال: في القرآن. قال: ذاك أشنع له، فما هو؟ قال: تقول لو كان آباؤكم وأبناؤكم، حتى تبلغ: أحب إليكم من الله ورسوله، تقرأها بالرفع. قال فقال له: لا جرم لا تسمع لي لحناً أبداً. فنفاه إلى خراسان وعليها يزيد بن المهلب. فكتب يزيد إلى الحجاج: إنا لقينا العدو وفعلنا وصنعنا واضطررناهم إلى عرعرة الجبل، فقال الحجاج: ما لابن المهلب ولهذا الكلام؟ فقيل: ظالم بن عمرو هناك. قال: فذاك إذاً.
قال وقال المأمون وقد سمع من بعض ولده كلاماً أسرع فيه اللحن إلى لسانه: ما على أحدكم أن يتعلم العربية فيقيم بها أوده ويزين مشهده ويتملك مجلس سلطانه بظاهر بيانه ويقلّ حجج خصمه بسكنات حكمته، أويسرُّ أحدكم أن يكون لسانه كلسان عبده وأمته ولا يزال أسير كلمته؟ قاتل الله القائل حيث يقول:
ألم تر مفتاح الفؤاد لسانه ... إذا هو أبدى ما يقول من الفم
وكائن ترى من صامتٍ لك معجبٍ ... زيادته أو نقصه في التكلم
لسان الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤاده ... ولم يبق إلا صورة اللحم والدم
وفي الحديث المرفوع: رحم الله عبداً أصلح لسانه.
قيل: وكتب غسان بن رفيع إلى أبي عثمان بكر بن محمد المازني النحوي:
تفكرت في النحو حتى مللت ... وأتعبت نفسي به والبدن
وأتعبت بكراً وأصحابه ... بطول المسائل في كل فن
فكنت بظاهره عالماً ... وكنت بباطنه ذا فطن
خلا أن باباً عليه العفا ... ء للفاء يا ليته لم يكن
وللواو بابٌ إلى جنبه ... من المقت أحسبه قد لعن
إذا قلت هاتوا لماذا يقا ... ل لست بآتيك أو تأتين
أجيبوا لما قيل هذا كذا ... على النصب قالوا لإضمار أن
قال: وكان الوليد بن عبد الملك لحّانة فدخل عليه أعرابي فقال: من ختنَك؟ قال: رجل من الحي لا أعرف اسمه. فقال عمر بن عبد العزيز: إن أمير المؤمنين يقول: من ختنُك؟ فقال: ها هوذا بالباب. فقال الوليد لعمر: ما هذا؟ فقال: النحو الذي كنت أخبرك عنه. فقال: لاجرم لا أصلي بالناس حتى أتعلمه.
وسمع إعرابي رجلاً يقول: أشهد أن محمد رسول الله. فقال: يفعل ماذا؟ قال وقال مولى لزياد: أيها الأمير أخذوا لنا همارَ وهشٍ. فقال له: ما تقول ويحك؟ فقال: أخذوا لنا أيراً " يريد عيراً ". فقال زياد: الأول خير.
قال: وجاء رجل إلى زياد فقال: إن أبينا هلك وإن أخينا غصبنا على ميراثنا من أبانا. فقال زياد: ما ضيعت من نفسك أكثر مما ضيعت من ميراثك، فلا رحم الله أباك حيث ترك ولداً مثلك.
قال: وعزم رجل من أهل الشام على لقاء المأمون فاستشار رجلاً من أصحابه فقال: على أي جهة أصلح أن ألقى أمير المؤمنين؟ قال: على الفصاحة، قال: ليس عندي منها شيء وإني لألحن في كلامي كثيراً. قال: فعليك بالرفع فإنه أكثر ما يستعمل. فدخل على المأمون فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال: يا غلام اصفع، فصُفع. قال: بسمُ اللهُ، فقال: ويلك من صبّك على الرفع؟ قال: وكيف لا أرفع من رفع الله! فضحك وقضى حاجته.