وحكي عن قباذ أنه ركب ذات يوم والموبذ يسايره إذ راث دابة الموبذ وفطن قباذ لذلك فغمّ ذلك الموبذ، فقال له قباذ في أول كلام مرّ: ما أول ما يستدل به على سخف الرجل؟ قال: أن يعلف دابته في الليلة التي يركب الملك في صبيحتها. فضحك قباذ وقال له: لله أنت ما أحسن ما ضمّنت كلامك بفعل دابتك! وبحق ما قدمتك الملوك وجعلت أحكامهم في يدك! ووقف ودعا له بدابة من خاص مراكبه وقال: تحول من هذا الجاني عليك إلى ظهر هذا الطائع لك. وحكي عن معاوية بن أبي سفيان أنه بينا هو يسير وشرحبيل بن السمط يسايره إذ راث دابة شرحبيل وساءه ذلك. فقال معاوية: يا أبا يزيد إنه كان يقال إن الهامة إذا عظمت دلت على وفور الدماغ وصحة العقل. قال: نعم يا أمير المؤمنين إلا هامتي فإنها عظيمة وعقلي ضعيف ناقص، فتبسم معاوية وقال: كيف ذاك لله أنت؟ قال: لإعلافي دابتي مكوكين من شعير. فتبسم معاوية وحمله على دابة من مراكبه.
ويقال: إن سعيد بن سلم بينا هو يساير موسى الهادي وعبد الله بن مالك أمامه والحربة بيده فكانت الريح تسفي التراب الذي تثيره دابة عبد الله في وجه موسى وعبد الله في خلال ذلك يلحظ موضع مسير موسى فيطلب أن يحاذيه فإذا حاذاه ناله من ذلك التراب ما يؤذيه حتى إذا كثر ذلك من عبد الله قال موسى لسعيد: أما ترى ما لقينا من هذا الخائن في مسيرنا هذا؟ فقال له سعيد: والله يا أمير المؤمنين ما قصر في الاجتهاد ولكنه حرم حظ التوفيق.
[مساوئ المسايرة]
ذكر عن عبد الله بن الحسن أنه بينا هو يساير أبا العباس السفاح بظهر مدينة الأنبار وهو ينظر إلى بناء قد بناه إذ قال أبو العباس: هات ما عندك يا أبا محمد. وهو يستطعمه الحديث بالأنس منه. فأنشده:
ألم تر حوشباً أمسى يبنّي ... بناءً نفعه لبني بقيله
يرجّي أن يعمّر عمر نوح ... وأمر الله يحدث كل ليله
فتبسم أبو العباس وقال: لو علمنا لاشترطنا حق المسايرة. فقال عبد الله: يا أمير المؤمنين بوادر الخواطر وأعقال المشايخ. قال: صدقت خذ في غير هذا.
وذكر عن المدائني قال: بينا عيسى بن موسى يساير أبا مسلم في منصرفه عن أبي جعفر في اليوم الذي قتل فيه إذ أنشد:
سيأتيك ما أفنى القرون التي مضت ... وما حلّ في أكناف عادٍ وجرهم
ومن كان أسنى منك عزاً ومفخراً ... وأنهض بالجيش اللُّهام العرمرم
فقال أبو مسلم: هذا مع الأمان الذي أعطيت. فقال عيسى: عتق ما يملك إن كان هذا لشيء من أمرك وما هو إلا خاطر. قال: فبئس والله الخاطر!
[محاسن المسامرة]
قال الكسائي: دخلت على الرشيد ذات يوم وهو في إيوانه وبين يديه مال كثير قد شق عنه البدر شقاً وأمر بتفريقه في خدم الخاصة وبيده درهم تلوح كتابته وهو يتأمله، وكان كثيراً ما يحدثني، فقال: هل علمت من أول من سنّ هذه الكتابة في الذهب والفضة؟ قلت: يا سيدي هذا عبد الملك بن مروان. قال: فما كان السبب في ذلك؟ قلت: لا علم لي غير أنه أول من أحدث هذه الكتابة.
فقال: سأخبرك، كانت القراطيس للروم وكان أكثر من بمصر نصرانياً على دين الملك ملك الروم، وكانت تطرّز بالرومية وكان طرازها أبا وبنا وروحا قديشا. فلم يزل كذلك صدر الإسلام كله يمضي على ما كان عليه إلى أن ملك عبد الملك فتنبه عليه وكان فطناً، فبينا هو ذات يوم إذ مرّ به قرطاس فنظر إلى طرازه فأمر أن يترجم بالعربية ففُعل ذلك فأنكره وقال: ما أغلظ هذا في أمر الدين والإسلام أن يكون طراز القراطيس وهي تحمل في الأواني والثياب وهما تعملان بمصر وغير ذلك مما يطرّز من ستور وغيرها من عمل هذا البلد على سعته وكثرة ماله وأهله تخرج منه هذه القراطيس فتدور في الآفاق والبلاد وقد طرّزت بشرك مثبت عليها! فأمر بالكتاب إلى عبد العزيز بن مروان، وكان عامله بمصر، بإبطال ذلك الطراز على ما كان يطرّز به من ثوب وقرطاس وستر وغير ذلك وأن يأخذ صنّاع القراطيس بتطريزها بصورة التوحيد: وشهد الله أنه لا إله إلا هو. وهذا طراز القراطيس خاصة إلى هذا الوقت لم ينقص ولم يزد ولم يتغير. وكتب إلى عمّال الآفاق جميعاً بإبطال ما في أعمالهم من القراطيس المطرزة بطراز الروم ومعاقبة من وُجد عنده بعد هذا النهي شيء منها بالضرب الوجيع والحبس الطويل.