قال: وسمع بعض الحكماء رجلاً يقول: إني غريب. فقال: الغريب من لا أدب له.
وكان يقال: من قعد به حسبه نهض به أدبه.
وقال علي بن أبي طالب، رضي الله عنه: العلم خير من المال لأن العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والمال يبيده الإنفاق، والعلم يزكو على الإنفاق، والعلم حاكم والمال محكوم عليه.
وقيل لبزرجمهر: الأدب أفضل أم المال؟ قال: بل الأدب. قيل له: فما بال الأدباء بباب الأغنياء ولا نرى الأغنياء بباب الأدباء؟ فقال: لعلم الأدباء بمقدار فضل المال وجهل الأغنياء بمقدار الأدب.
وقال بعض الحكماء: إن كان الرزق لا بد مطلوباً بسبب فأفضل أسبابه ما افتتح بالأدب، ونظرنا فلم نره اجتمع لشيء من أصناف الصناعات كما اجتمع للكتبة لأنها لا تكمل لأحد حتى يبتدئها برياضة نفسه في الأدب فينفذ في الخط والبلاغة في الكتب والفصاحة في المنطق والبصر بصواب الكلام من خطابه والعلم بالشريعة وأحكامها والمعرفة بالسياسة والتدبير.
[المناظرات في الأدب]
حدثنا أبو ناظرة البصري عن المازني قال: بينا أنا قاعد في المسجد إذا صاحب بريد قد دخل وهو يسأل عني ويقول: أيكم المازني؟ فأشار الناس إليّ، فقال: أجب، قلت: من ومن أجيب؟ قال: الخليفة، فذعرت منه وكنت رجلاً فاطمياً فظننت أن اسمي رُفع فيهم فقلت: أصلحك الله! تأذن لي أن أدخل منزلي فأودع أهلي وأتأهب لسفري؟ فقال: افعل. فعلمت أنه لو كان شراً لما أذن لي فسكنت إلى قوله ودخلت المنزل فودّعتهم وخرجت إليه، فحملني على دابة من دواب البريد حتى وافى بي باب الواثق، فما كان إلا قليلاً حتى أذن لي فدخلت إلى بهوٍ وإذا رجل قاعد وعلى رأسه سبعون وصيفاً. فذهبت أسلّم عليه بالخلافة. فقيل لي: هذا بغا. ثم تقدمت إلى بهو آخر فإذا رجل قاعد على كرسي وبين يديه سبعون وصيفاً. فذهبت أسلم عليه بالخلافة فقيل: هذا وصيف. حتى دفعت إلى الستر فما زال يقول: اذهب ادن ادن، حتى حاذاني بسريره، ثم قال: ما اسمك؟ قلت: بكر بن محمد. قال: ممن سمعتها؟ يعني اللغة. قلت: من مزاحم العقيلي، فقال حدثني. فلم أدر بما أحدثه وقلت: لعل حديثي على البديهة يعجبه، قلت: يا أمير المؤمنين قال رؤبة بن العجاج:
لا تعلواها وادلواها دلوا ... إنّ مع اليوم أخاه غدوا
فكأنه فطن لما أردت فقال: أجل أتدري لم دعوناك؟ قلت: لا. قال: وقع بيني وبين جارية لي شجار في بيت أردت لها إعرابه فامنتعت عليّ وقالت: سل المازني. قلت: فأسمعني يا أمير المؤمنين. قال: نعم. وأومأ إلى خادم بين يديه فضرب ستارة كادت عيني تلتمع من كثرة ذهبها ثم سمعت وراءها نقراً لولا جلالة أمير المؤمنين لرقصت عليه، ثم غنت:
أظليم إن مصابكم رجلاً ... أهدى السلام تحيةً ظلم
فقال: كيف ما سمعت؟ قلت: صواب. قال: فقد أخطأنا إذاً، قلت: وكيف؟ قال أمير المؤمنين قلت:
أظليم إن مصابكم رجلٌ ... أهدى السلام تحيةً ظلم
فقلت: وأصاب أمير المؤمنين. قال: فكاد يقوم إليّ فرحاً، ثم أدخل رأسه في الستارة فأومأ إليّ الخادم في الخروج فخرجت فناولني صرةً فيها خمسمائة دينار وحملت على البريد حتى رددت إلى منزلي بالبصرة. والشعر لأبي دهبل الجمحي يقول فيه:
عُقم النساء فلا يلدن شبيهه ... إن النساء بمثله عُقْم
فلا يلدن شبيهه أجود.
وحدثنا علي بن يزيد عن إسحاق بن المسيب بن زهير قال: حدثني المفضل قال: كنت يوماً عند الصراة ببغداد وكنت في الصحابة فأتاني رسول المهدي فقال لي: أجب. فخفت أن يكون ساعٍ سعى بي، فدخلت منزلي ولبست ثيابي وهممت أن أخبر أهلي ثم قلت: لم أعجل لهم الهمّ؟ إن كان خير سيأتيهم وإن كان غير ذلك فلا أكون عجّلته لهم. فمضيت حتى دخلت عليه وأنا مرعوب فسلمت عليه ورد السلام، وإذا عنده الفضل بن الربيع وعلي بن يقطين وغيرهما، فقال: إن هؤلاء زعموا أنك أعلم الناس بالشعر فأخبرني ما أشعر بيت قالته العرب؟ فوقعت في شيء لم أدر كيف هو فجهدت والله أن أنشده بيتاً من شعر فما قدرت عليه. فقال لي: ما لك لا تتكلم؟ فجرى على لساني ذكر الخنساء فقلت: لقد أحسنت الخنساء في قولها:
وإن صخراً لمولانا وسيدنا ... وإن صخراً إذا نشتوا لنحّار
وإن صخراً لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار