إن الفاروق لم يردد كلاباً ... إلى شيخين ما لهما تواقي
فقال له عمر: اذهب إلى أبيك فقد وضعنا عنك الغزو وأجرينا ك العطاء. قال: وتغنت الركبان بشعر أبيه. فبلغه فأنشأ يقول:
لعمرك ما تركت أبا كلابٍ ... كبير السن مكتئباً مصابا
وأماً لا يزال لها حنينٌ ... تنادي بعد رقدتها كلابا
لكسب المال أو طلب المعالي ... ولكني رجوت به الثوابا
وكان كلاب من خيار المسلمين، وقُتل مع علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، بصفين وعاش أبوه أمية دهراً طويلاً حتى خرف، فمرّ به غلام له كان يرعى غنمه وأمية جالس يحثو على رأسه التراب فوقف ينظر إليه، فلما أفاق بصر بالغلام فقال:
أصبحت لهواً لراعي الضأن أعجبه ... ماذا يريبك مني راعي الضان
انعق بضأنك في أرض بمخضرةٍ ... من الأباطح واحسبها بجلدان
انعق بضأنك إني قد فقدتهم ... بيض الوجوه بني عمي وإخواني
قال: وحدثني من سمع أعرابياً حاملاً أمه في الطواف وهو يقول:
إني لها مطيةٌ لا أذعر ... إذا الركاب نفرت لا أنفر
ما حملت وأرضعتني أكثر ... الله ربي ذو الجلال أكبر
ثم التفت إلى ابن عباس، رحمه الله، فقال له: أتراني قضيت حقها؟ فقال: لا والله ولا طلقة من طلقاتها.
قال: ونحر أعرابي جزوراً فقال لامرأته: أطعمي أمي منه. فقالت: أيها أطعمها؟ فقال: قطعي لها الورك. قالت: ظُوهرت بشحمة وبُطنت بلحمة، لا لعمر الله! قال: فاقطعي لها الكتف. قالت: الحاملة الشحم من كل مكان، لا لعمر الله! قال: فما تقطعين لها؟ قالت: اللحى ظوهرت بجلدة وبطنت بعظم. قال: فتزوديها إلى أهلك. وخلّى سبيلها.
وروي أن الحسن بن علي، رضوان الله عليه، كان يمتنع من مؤاكلة أمه، صلوات الله عليها، فسئل عن ذلك وهو ابن ست سنين. فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى لقمة تقع عينها عليها فأكون قد عققتها.
[مساوئ عقوق البنين]
الأصمعي قال: حدثني رجل من الأعراب قال: خرجت من الحي أطلب أعق الناس وأبر الناس فكنت أطوف بالأحياء حتى انتهيت إلى شيخ في عنقه حبل يستقي بدلو لا تطيقه الإبل في الهاجرة والحر الشديد وخلفه شاب في يده رشاء من قدّ ملوّى يضربه به قد شقّ ظهره بذلك الحبل. فقلت: أما تتقي الله في هذا الشيخ الضعيف؟ أما يكفيه ما هو فيه من مدّ هذا الحبل حتى تضربه؟ قال: إنه مع هذا أبي. قلت: فلا جزاك الله خيراً! قال: اسكت فهكذا كان يصنع هو بأبيه وكذا كان يصنع أبيه بجده. فقلت: هذا أعق الناس. ثم جلت أيضاً حتى انتهيت إلى شاب في عنقه زبيل فيه شيخ كأنه فرخ فيضعه بين يديه في كل ساعة فيزقّه كما يزقّ الفرخ. فقلت له: ما هذا؟ فقال: أبي وقد خرف فأنا أكفله. قلت: فهذا أبر العرب. فرجعت وقد رأيت أعقهم وأبرهم.
قيل: وكانت لخيزران في خلافة موسى الهادي كثيراً ما تكلمه في الحوائج فكان يجيبها إلى كل ما تسأل، حتى مضت لذلك أربعة أشهر من خلافته فاجتمع الناس إليها وطمعوا فيما قبلها فكانت المواكب تغدو إلى بابها وتروح، قال: فكلمته يوماً في أمر فاعتل بعلة، فقالت: لا بد من إجابتي. قال: لا أفعل. قالت: فإني قد تضمنت هذه الحاجة لعبد الله بن مالك. قال: فغضب وقال: ويلي عليه ابن الفاعلة قد علمت أنه صاحبها والله لا قضيتها له! قالت: إذاً والله لا أسألك حاجة أبداً. فقال: إذاً والله لا أبالي. وحمي وغضب ثم قال: مكانك حتى تستوعبي كلامي والله وإلا فأنا نفيّ من قرابتي من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لئن بلغني أنه وقف ببابك أحد من قوادي وخاصتي وخدمي لأضربن عنقه ولأقبضنّ ماله فمن شاء فليلزم ذلك، ما هذه المواكب التي تغدو وتروح إلى بابك في كل يوم؟ أما لك مغزل يشغلك أو مصحف يذكرك أو بيت يصونك؟ إياك ثم إياك أن تفتحي بابك لملّيّ ولا ذميّ! فانصرفت ما تعقل ما تطأ فلم تنطق عنده بحلوة ولا بمرة بعد ذلك.