للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وقال أبو عمرو بن العلاء: لما قدم عبد الملك المدينة خطب فقال: يا أهل المدينة إنا والله ما نحبكم ما ذكرنا ما فعلتم بنا ولا تحبّونا ما ذكرتم ما فعلنا بكم! وإنما مثلنا ومثلكم كمثل حية كانت في جحر إلى جنبها خباء رجل فوثبت عليه فلسعته فقتلته فجاء أخو المقتول يطلب بثأر فقالت له الحية: لا تقتلني حتى أؤدي إليك دية أخيك. ففارقها على ذلك وعاهدها فكانت تؤدي إليه في كل يومين مالاً، فلما استوفى أكثر الدية قال: والله لو قتلتها كنت قد أدركت ثأري وأخذت الدية. فعمل فأساً وحددها، فلما خرجت إليه أهوى إليها بالفأس فأخطأها ورجعت إلى جحرها فأُسقط في يده. فقالت: والله ما الثأر أدركت ولا الدية استوفيت! فقال: تعالي أعاقدك أن لا ينداك مني مكروه حتى أستوفي منك الدية. فقالت: أما ما رأيت قبر أخيك تجاهك وذكرت أنا الضربة فلن أثق بك ولن تثق بي. ثم أنشده:

ألا هل لنا مولىً يحب صلاحنا ... فيعذرنا من مرة المتناصره

وأنشد في مثله:

ظلمت الناس فاعترفوا بظلمي ... فتبت فأزمعوا أن يظلموني

فلست بصابرٍ إلا قليلاً ... فإن لم ينتهوا راجعت ديني

ولآخر:

إياك من ظلم الكريم فإنه ... مرُّ مذاقته كطعم العلقم

إن الكريم إذا رآك ظلمته ... ذكر الظلامة بعد نوم النُّوَّم

فجفا الفراش وبات يطلب ثأره ... أنفاً وإن أغضى ولم يتكلم

[محاسن الشدة]

ذكروا أن جندب بن العنبر كان شديد البأس وأن عوانة بن زيد عيّره يوماً فقال:

هل يسود الفتى إذا قبح الوج ... هـ وأمسى تراه غير عتيد

وإذا ما تكلم القوم يوماً ... في الندى قال قولاً غير سديد

وكان جندب فيه دمامة مع إمساك غير أنه كان ليثاً في الحرب، فأجابه:

ليس زين الفتى الجمال ولكن ... زينه الضرب بالحسام التليد

وكان جندب عائفاً فقال: والله لا تموت حتى تنصر عليك ظعينة. وإن عوانة خرج يوماً يتصيد على فرسه ومعه قوسه فسار غير قليل إذ عرضت له جارية قد حملت وطباً من لبن فهمّ بها فدنا فقال: تمكّنيني طائعة أو تُقهرين؟ فقالت: لا إحداهما. فنزل إليها فأخذت ساعديه بإحدى يديها فما زالت تعصرهما حتى تركتهما وما يستطيع أن يحركهما ثم كتفته بوتر قوسه وشدت حبل الفرس في جيده ثم قالت: خذ بنا نحو محلة جندب. فمرّ يقود الفرس في جيده حبل. فلما قارب الحي بصر بجندب مقبلاً فناداه: أيها المرؤ الكريم انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً! فذهب مثلاً، فأطلقه.

ومنهم كليب بن شؤبوب الأزدي كان أخبث أهل زمانه في قطع الطريق وحده، وكان كثير الغارة على طيء، فدعا حارثة بن لأم الطائي رجلاً من قومه يقال له عبرم، وكان شجاعاً، فقال له: أما تستطيع أن تكفينا هذا؟ قال: نعم. فأرسل العيون حتى علم مكانه فانطلق إليه حتى وجده نائماً في ظل أراكة وفرسه مشدودٌ عنده، فنزل عبرم ورجل معه فمشيا حتى أخذ كل واحد منهما بإحدى يديه، فانتبه ونزع يده اليمنى فقبض على حلق صاحب اليسرى وهو عبرم فما زال يخنقه حتى قتله. وقد كان أعدّ قوماً فلحقوه وهم عشرة فوجدوه قتيلاً، وأخذوا كليباً فكتفوه وساقوه، وأنشأ خوذة بن عبرم يرثي أباه ويقول:

إلى الله أشكو أن أؤوب وقد ثوى ... قتيلاً وأودى سيد القوم عبرم

فمات ضياعاً هكذا بيد امريءٍ ... لئيمٍ فلو أدمي لما كنت أثلم

ولكن ثوى لم يكلم السيف جيده ... ولا ناله رمحٌ ولم يرق الدم

فأنت ابن شؤبوبٍ فيا لهفتا له ... وما جزّ من أظفاره منك أكرم

سأسقيك قبل الموت كأساً مزاجها ... ذعافٌ من السم النقيع وعلقم

فأجابه كليب:

أخوذة إن تفخر وتزعم بأنني ... لئيمٌ ويأبى لي قتالي عبرم

فأقسم بالبيت المحرم من منىً ... وبرّ يميني صادقاً حين أقسم

لضبٌّ بقفرٍ من قفارٍ وضبعةٍ ... خموعٌ ويربوع الفلا منك أكرم

ألا عجباً من فخر هذا وأمه ... سواديةٌ والجد علجٌ مكدّم

أتوعدني بالمنكرات وإنني ... صبور على ما ناب جلد مصمم

<<  <   >  >>