وعن إسحاق بن أيوب بن جعفر بن سليمان قال: دخل محمد بن واضح دار المأمون وخلفه أكثر من خمسمائة راكب كلهم راغبٌ إليه وراهب منه، وهو إذ ذاك يلي أعمالاً من أعمال السواد، فدعا به المأمون فقال: يا أمير المؤمنين اعفني من عمل كذا وكذا فإنه لا قوة لي عليه، فقال: قد أعفيتك، واستعفى من عمل آخر وهو يظن أنه لا يعفيه فأعفاه حتى خرج من كل عمل في يده في أقل من ساعة وهو قائم على رجله، فخرج وما في يده شيء من عمله، فقال المأمون لسلم الحوائجي: إذا خرج فانظر إلى موكبه واحص من معه، وكان المأمون قد رآه من مستشرف له حين أقبل، فخرج سالم وقد استفاض الخبر بعزله عن عمله فنظر فإذا لا يتّبعه إلا غلام له بغاشية، فرجع إلى المأمون فأخبره، فقال: ويلهم لو تجمّلوا له ريثما يرجع إلى بيته كما خرج منه! ثم تمثل فيهم:
ومن يجعل المعروف في غير أهله ... يلاق الذي لاقى مجير ام عامر
ثم قال: صدق رسول الله وكان للصدق أهلاً حين قال: لا تنفع الصنيعة إلا عند ذي حسب أو دين.
وذكروا أنه كان سبب عزل الحجاج عن الحجاز أنه وفد وفد منهم فيهم عيسى بن طلحة بن عبيد الله على عبد الملك بن مروان فأثنوا على الحجاج وعيسى ساكت، فلما قاموا ثبت عيسى حتى خلا له وجه عبد الملك فقام وجلس بين يديه فقال: يا أمير المؤمنين من أنا؟ قال: عيسى بن طلحة بن عبيد الله، قال: فمن أنت؟ قال: عبد الملك بن مروان، قال: أفجهلتنا أو تغيرت بعدنا؟ قال: وما ذاك؟ قال: ولّيت علينا الحجاج يسير فينا بالباطل ويحملنا على أن نثني عليه بغير الحق، والله لئن أعدته علينا لنعصينك، فإن قاتلتنا وغلبتنا وأسأت إلينا قطعت أرحامنا، ولئن قوينا عليك لنعصينك ملكك! قال: فانصرف والزم بيتك ولا تذكرنّ من هذا شيئاً، قال: فقدم إلى منزله وأصبح الحجاج غادياً على الوفد في منازلهم يجزيهم الخير، ثم أتى عيسى بن طلحة فقال: جزاك الله عن خلوتك بأمير المؤمنين خيراً فقد أبدلني بكم خيراً لي منكم وأبدلكم بي غيري وولاني العراق.
وعن الوضّاحيّ عن معمر بن وهيب قال: كان عبد الملك عندما استعفى أهل العراق من الحجاج بن يوسف قال لهم: اختاروا أي هذين شئتم يعني أخاه محمد بن مروان أو ابنه عبد الله مكان الحجاج، فكتب إليه الحجاج: يا أمير المؤمنين إن أهل العراق استعفوا من سعيد بن العاص إلى عثمان بن عفان فأعفاهم منه فساروا إليه من قابل فقتلوه، فقال عبد الملك: صدق ورب الكعبة، وكتب إلى محمد وعبد الله بالسمع والطاعة له.
[مساوئ الولايات]
قال: كتب عبد الصمد بن المعذّل إلى صديق له وليَ النفّاطات فأظهر تيهاً:
لعمري لقد أظهرت تيهاً كأنما ... توليت للفضل بن مروان منبرا
وما كنت أخشى لو وليت مكانه ... علي أبا العباس أن تتغيرا
بحفظ عيون النفط أحدثت نخوة ... فكيف به لو كان مسكاً وعنبرا
دع الكبر واستبق التواضع إنه ... قبيح بوالي النفط أن يتكبرا
قال: وسئل عمّار بن ياسر عن الولايات فقال: هي حلوة الرضاع مرة الفطام، ولابن المعتز في مثله:
كم تائهٍ بولاية ... وبعزله يعدو البريد
سكر الولاية طيبٌ ... وخمارها صفع شديد
ولغيره:
لا تجزعن فكلُّ وال يُعزل ... وكما عزلت فعن قريبٍ يعزل
إن الولاية لا تدوم لواحدٍ ... إن كنت تنكره فأين الأول
وكذا الزمان بما يسرك تارةً ... وبما يسوءك مرةً يتنقل
محاسن بُعد الهمة
قال: حدثّنا أحمد بن إسحاق التُستري قال: دخل أحمد بن أبي دؤاد على الواثق فقال له الواثق: بالله يا أبا عبد الله إني حنثت في يمين فما كفارتها؟ فقال: مائة ألف دينار، فقال ابن الزيات: والله ما سمعنا بهذا في الكفارات إنما قال الله جل وعز، وتلا الآية في كفارة الأيمان، فقال: تلك كفارة مثله في بعد همته وجلالة قدره أو مثل آبائه، إنما تكون كفارة اليمين على قدر جلال الله من قلب الحالف بها ولا نعلم أحداً الله جل وعز في قلبه أجل من أمير المؤمنين فقال الواثق: تحمل إلى أبي عبد الله يتصدق بها.