قيل: دخل أبو علقمة النحوي على أعين الطبيب فقال له: إني أكلت من لحوم هذه الجوازيء فطسئت طسأة فأصابني وجع ما بين الوابلة إلى دأية العنق ولم يزل يربو وينمو حتى خالط الخلب والشراسيف فهل عندك دواء؟ قال: نعم خذ خرفقاً وسلفقاً فرقرقه واغسله بماء روث واشربه. قال: لا أدري ما تقول! قال: ولا أنا أدري ما تقول.
وقال له آخر: إني أجد معمعة في بطني وقرقرة، فقال له: أما المعمعة فلا أعرفها، وأما القرقرة فهو ضراط لم ينضج.
قيل: وأتى رجل إلى الهيثم بن عريان بغريم له وقد مطله في حق له فقال: أصلح الله الأمير! إن لي على هذا حقاً قد غلبني عليه. فقال له الآخر: أصلحك الله! إن هذا باعني عنجداً وقد استنسأته حولاً وشرطت أن أعطيه مياومة فهو لا يلقاني في لقم إلا اقتضاني. فقال له الهيثم: أمن بني شيبة أنت؟ قال: لا. قال: فمن بني هاشم؟ قال: لا. قال: فمن أكفائهم من العرب؟ قال: لا. قال: ويلي عليك انزع ثيابه يا حرسي! فلما أرادوا أن ينزعوا ثيابه قال: أصلحك الله! إن إزاري مرعبل. فقال: دعوه فلو ترك الغريب في موضع لتركه في هذا الموضع.
قال: ومر أبو علقمة ببعض الطرق فهاجت به مرة فوثب عليه قوم وأقبلوا يعضون إبهامه ويؤذنون في أذنه. فأفلت من أيديهم وقال: ما لكم تتكأكؤون علي كما تتكأكؤون على ذي جنة؟ افرنقعوا عني! فقال رجل منهم: دعوه فإن شيطانه هندي يتكلم بالهندية.
وقال مرة لحجام يحجمه: اشدد قصب الملازم وارهف ظبة المشارط وخفف الوضع وعجل النزع، وليكن شرطك وخزاً ومصك نهزاً، ولا تكرهن أبياً ولا ترددن أتياً. فوضع الحجام محاجمه في جونته ومضى.
[محاسم المكاتبات]
قال: وقال كعب العبسي لعروة بن الزبير: قد أذنبت ذنباً إلى الوليد بن عبد الملك وليس يزيل غضبه شيء فاكتب إليه. فكتب: لو لم يكن لكعب من قديم حرمته ما يغفر له عظيم جريرته لوجب أن لا تحرمه التفيؤ بظل عفوك الذي تأمله القلوب، ولا تعلق به الذنوب وقد استشفع بي إليك فوثقت له منك بعفو لا يخلطه سخط، فحقق أمله فيّ وصدق ثقتي بك مغتنماً للشكر مبتدئاً بالنعمة. فكتب إليه الوليد: قد شكرت رغبته إليك وعفوت عنه لمعوله عليك، وله عندي الذي تحب إن لم تقطع كتبك عني في أمثاله وفي سائر أمورك.
قال: وكتب عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر إلى بعض إخوانه: أما بعد فقد عاقني الشك عن عزيمة الرأي، ابتدأتني بلطف من غير خبرة ثم أعقبتني جفاء من غير ذنب طمعني أوّلك في إخائك وأيسني آخرك من وفائك، فلا أنا في غير الرجاء مجمع لك اطراحاً ولا في غدو انتظار منك على ثقة، فسبحان من لو شاء كشف بإيضاح الرأي فيك ما أقمنا على ائتلاف وافترقنا على اختلاف.
قال: وسخط مسلمة بن عبد الملك على العريان بن الهيثم فعزله عن شرطة الكوفة فشكا ذلك إلى عمر بن عبد العزيز، فكتب إليه: فإن من حفظ نعم الله رعاية حق ذوي الأسنان، ومن إظهار شكر الموهوب له صفح القادر عن الذنوب، ومن تمام السودد حفظ الودائع واستتمام الصنائع، وقد كنت أودعت العريان نعمة من نعمك فسلبتها عجلة سخطك، وما أنصفته إذ غصبته على أن وليته ثم عزلته وخليته، وأنا شفيعه فأحب أن تجعل له من قلبك نصيباً ولا تخرجه من حسن رأيك فيضيع ما أودعته ويتوى ما أفدته. فعفا عنه.
قال: وغضب سليمان بن عبد الملك على أبي عبيدة مولاه فشكا إلى سعيد بن المسيب ذلك، فكتب إليه: أما بعد فإن أمير المؤمنين في الموضع الذي يرتفع قدره عن أن تعصيه رعيته وفي عفو أمير المؤمنين سعة للمسلمين. فرضي عنه.
قال: وطلب العتابي من رجل حاجة فقضى له بعضها وماطله ببعض. فكتب إليه: أما بعد فقد تركتني منتظراً لرفدك وصاحب الحاجة محتاج إلى نعم هنيئة أو لا مريحة، والعذر الجميل أحسن من المطل الطويل، وقد كتبت:
بسطت لساني ثم أوثقت نصفه ... فنصف لساني بامتداحك مطلق
فإن أنت لم تنجز عداتي تركتني ... وباقي لسان الشكر باليأس موثق
قال: ولما بنى المهدي بريطة ابنة أبي العباس كتب إليه يحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري: أدام الله لك جميل عاداته عندك وأوتر ما يجري به القدر لك ولا زالت يد الله تحوطك في المحبوب وتدرأ عنك المكروه، وهنئت بهذه النعمة ومليتها أمناً من زوالها بطول البقاء والمدة. فقالت له ريطة: ما لهذا الكلام ثمن!