قال: وقال المأمون لولده: يا بني نزّهوا أقداركم وطهروا أحسابكم عن دنس الوشاة وتمويه سعايتهم فكل جانٍ يده في فيه وليس يشي إليكم إلا أحد الرجلين ثقة وظنين، أما الثقة فقد قيل إنه لا يبلغ ولا يشين بالوشاية قدره، وأما الظنين فأهل أن يتهم صدقه ويكذّب ظنه ويردّ باطله، وما سعى رجل برجل إليّ قط إلا انحط من قدره عندي ما لا يتلافاه أبداً، فلا تعطوا الوشاة أمانيهم فيمن يشون بهم، فقد قال بعض الملوك لرجل سعى بآخر: لو كنت أنت أنا ما كنت صانعاً به؟ قال: كنت أقتله. فقال: أما إذ لم تكن أنت أنا فإني غير قاتله ومع ذلك فلا تدعوا الفحص عما يلقى إليكم مما تحذرون رجوع ضرره عليكم.
عوانة قال: قام رجل إلى سليمان بن عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين عندي نصحية. قال: وما نصيحتك هذه؟ قال: كان فلان عاملاً ليزيد والوليد وعبد الملك فخانهم فيما تولاه واقتطع أموالاً جليلة فمر باستخرجها منه. فقال: أنت شر منه وأخون حيث اطّلعت على أمره وأظهرته ولولا أني أنفّر أصحاب النصائح لعاقبتكم ولكن اختر مني خصلة من ثلاث. قال: اعرضهن يا أمير المؤمنين. قال: إن شئت فتّشت عما ذكرت فإن كنت صادقاً مقتناك، وإن كنت كاذباً عاقبناك، وإن شئت أقلناك. قال: بل تقيلني يا أمير المؤمنين. قال: قد فعلت فلا تعودن بعدها إلى أن تظهر من ذي مروءة ما كتمه الله وستره.
[محاسن الشكر]
قال بعض الحكماء: صن شكرك عمّن لا يستحقه واستر ماء وجهك بالقناعة.
وقال الفضل بن سهل: من أحب الازدياد من النعم فليشكر، ومن أحب المنزلة عند سلطانه فليكفه، ومن أحب بقاء عزه فليسقط دالّته ومكره. ومن ذلك قول رجل لرجل شكره في معروف:
لقد ثبتت في القلب منك محبةٌ ... كما ثبتت في الراحتين الأصابع
قال: واصطنع رجل رجلاً فسأله يوماً: أتحبني يا فلان؟ قال: نعم أحبك حباً لو كان فوقك لأظلك ولو كان تحتك لأقلك.
وقال كسرى أنوشروان: المنعم أفضل من الشاكر لأنه جعل له السبيل إلى الشكر.
واختصر حبيب بن أوس من هذا شيئاً في مصراع واحد فقال:
لهان علينا أن نقول وتفعلا
وقال بشار:
أثني عليك ولي حالٌ تكذبني ... فيما أقول وأستحيي من الناس
قد قلت إن أبا حفصٍ لأكرم من ... يمشي فخاصمني في ذاك إفلاسي
ولأبي الهول في مثله:
فإني إذ مدحتك يا ابن معنٍ ... رآني الناس في رمضان أزني
فإن أك أُبتُ عنك بغير شيءٍ ... فلا تفرح كذلك كان ظني
ولآخر في مثله:
لحى الله قوماً أعجبتهم مدائحي ... فقالوا خفاتاً في ملامٍ وفي عتب:
أبا حازمٍ تمدح، فقلت معذّراً: ... هبوني امرأً جربت سيفي على كلب
ولبعض المحدثين:
عثمان يعلم أن الحمد ذو ثمنٍ ... لكنه يشتهي حمداً بمجّان
والناس أكيس من أن يحمدوا أحداً ... حتى يروا قبله آثار إحسان
وقال آخر:
فلو كان يستغني عن الشكر سيدٌ ... لعزّة ملكٍ أو علو مكان
لما أمر الله العباد بشكره ... فقال اشكروني أيها الثقلان
الباهلي عن أبي فروة قال: أخبرني الحلبي قال: مكتوب في التوراة: اشكر لمن أنعم عليك وأنعم على من شكرك، فإنه لا زوال للنعم إذا شكرت ولا إقامة لها إذا كفرت والشكر زيادة في النعم وأمان من الغِيَر.
قيل وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: خمس يعاجل صاحبهن بالعقوبة: البغي والغدر وعقوق الوالدين وقطيعة الرحم ومعروف لا يشكر.
وفي حديث مرفوع: دعاء المنعم على المنعَم عليه مستجاب.
وقيل: أنشد عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، الحطيئة هذا البيت وعنده كعب الأحبار:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس
فقال كعب: يا أمير المؤمنين هذا البيت الذي قال مكتوب في التوراة! قال عمر: وكيف ذاك؟ قال: في التوراة مكتوب: من يصنع المعروف لا يضيع عندي، لا يذهب العرف بيني وبين عبدي.
قيل: ودخل أبو مسلم صاحب الدولة على أبي العباس وأبو جعفر المنصور عنده، فقال أبو العباس لأبي مسلم: يا عبد الرحمن هذا أبو جعفر عبد الله بن محمد مولاك! قال: قد رأيت مجلسه يا أمير المؤمنين ولكنّ هذا مجلس لا يقضى فيه حق غيرك.