عاد السرور إليك في الأعياد ... وسعدت من دنياك بالأسعاد
رفقاً بشكر جلّ ما أوليته ... رفقاً فقد أثقلته بأيادي
ملأ النفوس مهابةً ومحبةً ... بدرٌ بدا متغمراً بسواد
ما إن أرى لك مشبهاً فيمن أرى ... أمُّ الكرام قليلة الأولاد
ولآخر:
إذا ما أتاه السائلون توقدت ... عليه مصابيح الطلاقة والبشر
له في ذرى المعروف نعمى كأنها ... مواقع ماء المزن في البلد القفر
[محاسن صلات الشعراء]
قيل: دخل جرير على عبد الملك بن مروان وقد أوفده إليه الحجاج بن يوسف، فدخل محمد بن الحجاج فقال: يا أمير المؤمنين هذا جرير مادحك وشاعرك، فقال: بل مادح الحجاج وشاعره، فقال جرير: إن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في إنشاده مدحة فيه، قال: هات ابدأ بالحجاج، قال: بل بك يا أمير المؤمنين، فقال: هات ابدأ بالحجاج، فأنشده:
صبرت النفس يا ابن عقيلٍ ... محافظةً فكيف ترى الثوابا
ولو لم ترض ربك لم ينزّل ... مع النصر الملائكة الغضابا
إذا شعر الخليفة نار حربٍ ... رأى الحجاج أثقبها شهابا
فقال: صدقت كذاك هو، ثم قال للأخطل: قم فهات مديحاً، فقام فأنشد وأجاد وأبلغ، فقال: أنت شاعرنا وأنت مادحنا، قم فاركبه، فألقى النصراني ثوبه وقال: خبّ يا ابن المراغة، فساء ذلك من حضر من مضر وقالوا: يا أمير المؤمنين إن النصراني لا يركب الحنيف المسلم! فاستحيا عبد الملك وقال: دعه، قال جرير: فانصرفت أخزى خلق الله، حتى إذا كان يوم الوداع دخلت لأودعه فأنشدته:
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
فقال: بلى نحن كذلك، أعد، فأعدت وأسفر لونه وذهب ما كان في قلبه، فالتفت إلى محمد بن الحجاج فقال: أترى أم حزرة يرويها مائة من الإبل؟ فقلت: نعم يا أمير المؤمنين إن كانت من فرائض كلبٍ فلم يروها فلا أرواها الله، فأمر لي بمائة من الإبل.
وحدثنا المدائني عن كيسان عن الهيثم قال: حج عبد الملك بن مروان ومعه الفرزدق، فبينا هو قاعد بمكة في الحجر إذ مر به علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وعليه مطرف خزّ، فقال عبد الملك: من هذا يا فرزدق؟ فأنشأ يقول:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحلُّ والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم ... هذا التقي النقي الطاهر العلم
إذا رأته قريشٌ قال قائلها: ... إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
يكاد يمسكه عرفان راحته ... ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
ينمي إلى ذروة العزّ التي قعدت ... عن نيلها عرب الإسلام والعجم
مشتقةٌ من رسول الله نبعته ... طابت عناصره والخيم والشيم
في كفه خيزرانٌ ريحه عبقٌ ... من كف أروع في عرنينه شمم
ينشقّ نور الدجى عن نور غرّته ... كالشمس تنجاب عن إشراقها الظلم
يغضي حياءً ويغضى من مهابته ... فما يكلَّمُ إلا حين يبتسم
من معشرٍ حبهم دينٌ وبغضهم ... كفرٌ وقربهم منجىً ومعتصم
يستدفع السوء والبلوى بحبهم ... ويُستربّ به الإحسان والنعم
لا يستطيع جوادٌ بُعد غايتهم ... ولا يدانيهم قومٌ وإن كرموا
إن عُدَّ أهل الندى كانوا أئمتهم ... أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم
مقدَّمٌ بعد ذكر الله ذكرهم ... في كل برٍ ومختومٌ به الكلم
قال: فلما فرغ من شعره قال لهم عبد الملك: أورافضيّ أنت يا فرزدق؟ فقال: إن كان حبّ أهل البيت رفضاً فنعم، فحرمه عبد الملك جائزته، فتحمّل عليه بأهل بيته فأبى أن يعطيه، فقال له عبد الله بن جعفر بن أبي طالب: ما كنت تؤمل أن يعطيك؟ قال: ألف دينار في كل سنة، قال: فكم تؤمل أن تعيش؟ قال: أربعين سنة؟ قال: يا غلام علي بالوكيل، فدعاه إليه، وقال: اعط الفرزدق أربعين ألف دينار، فقبضها منه.